خطب عمر بن عبد العزيز بين البلاغة والتداولية

المساهمين

المؤلف

قسم البلاغة والنقد، کلية البنات الأزهرية بطيبة، جامعة الأزهر، مصر

المستخلص

تعددت قراءات الأثر الأدبي مستفيدة من الاتجاهات اللسانية إلى أن وصلت إلى التداولية تلک القراءة التي تراعي مستويات عدة مسؤولة عن بناء الخطاب: کبنيته اللغوية وقواعد التخاطب وحال المتکلم والمخاطب، وعلاقة البنية بظروف الاستعمال حيث السياق الخارجي للحدث الکلامي، من هنا يقوم البحث على تطبيق الدرس اللساني التداولي على الخطاب العربي ممثلا في  خطب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه – مع الربط بين البلاغة والتداولية، بما للتداولية من جذور في البلاغة العربية؛ فقد عنيت البلاغة منذ القدم بحال المخاطب ونصت على ضرورة مطابقة الکلام لمقتضى الحال، وجاءت عناية القدماء بالأفعال الکلامية في دراستهم للمعاني المجازية للإنشاء، والأغراض البلاغية للخبر، وقيام الخبر مقام الإنشاء وغيرها، هذا من جهة وبالاستفادة من معطيات الدرس التداولي الحديث من جهة أخرى، وقد کانت خطبه – رضي الله عنه – من النجاعة بمکان ، مما يشهد بأنه أحسن إقامة العلاقة بينه وبين جمهوره المخاطب، وإقناعه بما يرمي إليه بما ضمن خطابه من خصوصيات تتناسب مع متلقيه، مؤسسا على ما بينهما من الخلفية المعرفية المشترکة، فجاء الحدث الکلامي مؤثرا فيه دافعا له إلى السلوک الذي يريده صاحب الخطاب محدثا ردة فعل استقامت لها شئون الدولة الإسلامية في عهده، وکانت الخطابة من أنسب الأجناس الأدبية للدراسة التداولية، لما تتوفر عليه من عناصر سياقية، وما لها من استراتيجية توجيهية وأدلة حجاجية، وما تنتظره وتترقبه من نواتج تأثيرية على المخاطبين.

الكلمات الرئيسية


 

مقدمة

      تعددت قراءات الأثر الأدبی مستفیدة من الاتجاهات اللسانیة إلى أن وصلت إلى التداولیة تلک القراءة التی تراعی مستویات عدة مسؤولة عن بناء الخطاب: کبنیته اللغویة، وقواعد التخاطب، وحال المتکلم والمخاطب، وعلاقة البنیة بظروف الاستعمال حیث السیاق الخارجی للحدث الکلامی.

       من هنا یقوم البحث على تطبیق الدرس اللسانی التداولی على الخطاب العربی ممثلا فی خطب عمر بن عبد العزیز - رضی الله عنه- مع الربط بین البلاغة والتداولیة، بما للتداولیة من جذور فی البلاغة العربیة؛ فقد عنیت البلاغة منذ القدم بحال المخاطب ونصت على ضرورة مطابقة الکلام لمقتضى الحال، وجاءت عنایة القدماء بالأفعال الکلامیة فی دراستهم للمعانی المجازیة للإنشاء، والأغراض البلاغیة للخبر، وقیام الخبر مقام الإنشاء وغیرها، هذا من جهة، وبالاستفادة من معطیات الدرس التداولی الحدیث من جهة أخرى، من هنا کان عنوان البحث (خطب عمر بن عبد العزیز بین البلاغة والتداولیة).

       وقد کانت خطبه - رضی الله عنه- من النجاعة بمکان، مما یشهد بأنه أحسن إقامة العلاقة بینه وبین جمهوره المخاطب، وإقناعه بما یرمی إلیه، بما ضمن خطابه من خصوصیات تتناسب مع متلقیه، مؤسسا على ما بینهما من الخلفیة المعرفیة المشترکة، فجاء الحدث الکلامی مؤثرا فیه دافعا له إلى السلوک الذی یریده صاحب الخطاب محدثا ردة فعل استقامت لها شؤون الدولة الإسلامیة فی عهده.

       وکانت الخطبة من أنسب الأجناس الأدبیة للدراسة التداولیة؛ لما تتوفر علیه من عناصر سیاقیة، وما لها من استراتیجیة توجیهیة، وأدلة حجاجیة، وما تنتظره وتترقبه من نواتج تأثیریة على المخاطبین.

مشکلة البحث وأهمیته:    

 تتمثل مشکلة البحث فی تطبیق المنهج التداولی على خطب عمر بن            عبد العزیز مزاوَجًا مع التحلیل البلاغی؛ لتتفرع عنها التساؤلات التالیة:

- ما الصلة بین البلاغة والتداولیة؟

- هل تبدأ التداولیة من حیث تنتهی البلاغة أو یسیران فی خطین متوازیین؟

- ما الجدید الذی تقدمه التداولیة فی تحلیل النصوص؟

- هل للتداولیة أن تستغنی عن البلاغة؟

 - ما مدى إمکانیة تطبیق المنهج التداولی على خطب عمر بن عبد العزیز؟

       أما أهمیة البحث فترجع إلى:

1-توسیع آفاق تحلیل الخطاب بالاستفادة من معطیات المناهج الحدیثة (التداولیة بالتحدید).

2-الکشف عن شخصیة عمر بن عبد العزیز الحجاجیة، وفلسفته اللغویة والکلامیة، وقدرته على إقناع مخاطبیه.

3-الاهتمام بالنص النثری وتحلیله؛ حیث لم یلق حظه من عنایة الدارسین على نحو مالقی الشعر.

أهداف البحث:

1-عقد الصلة بین التراث والحداثة.

2-الاستفادة من المنهج التداولی فی تحلیل الخطاب.

3-سبر أغوار خطاب عمر بن العزیز، والوقوف على شخصیته الحجاجیة، وفلسفته اللغویة والکلامیة.

الدراسات السابقة:

لم أقف على کل دراسة بلاغیة أو تداولیة تناولت خطب عمر بن عبد العزیز.

لکن ثمة بعض الدراسات التی تناولت بعض النصوص العربیة وفق المنهج التداولی مثل:

1- فی العلاقة بین تحلیل الخطاب والتداولیة نموذج تطبیقی من جریدة التبکیت والتنکیت، هدى عبد الغنی باز، مجلة جسور-مصر العدد الرابع ینایر 2016م.

2- الإقناع فی قصة إبراهیم -علیه السلام- مقاربة تداولیة، رسالة ماجستیر، بوصلاح فایزة، کلیة الآداب واللغات والفنون، جامعة وهران، للسنة الجامعیة 2009 -2010م.

3- تلقی الخطاب الشعری من منظور تداولی فی قصیدة "منشورات فدائیة على جدران إسرائیل" لنزار قبانی، مذکرة مقدمة لنیل شهادة الماجستیر، للطالب /طارق خلایفة، کلیة الآداب واللغات –جامعة محمد خیضر *بسکرة*، للسنة الجامعیة 2014-2015م .

منهجیة البحث:

      یقوم البحث على المنهج التحلیلی التداولی الذی یمزج بین الآلیات البلاغیة التی حواها الخطاب کوسائل للإقناع، وبین حیثیات المنهج التداولی وآلیاته (کالإشاریات، والافتراض المسبق، والأفعال الکلامیة، والحِجَاج) التی وُظِّفت لها البلاغة، وقادت إلیها، مما یکشف عن جمالیات النص ویُمْتِع بها من جهة، وعن أدلته وحججه ویُقْنِع بها من جهة أخرى.

       ویتکون البحث من: مقدمة: فی أهمیة الموضوع وأسباب اختیاره وأهدافه، ومنهجه وخطته، وتمهید: فی التداولیة (مفهومها ومصطلحاتها)، وعناصر السیاق - سیاق الخطب التی یتناولها البحث- (المرسِل، والمرسَل إلیه، موضوع الخطاب)

 ثم التطبیق على الخطب، حیث یُعنوَن لکل خطبة بعنوان مناسب، وعند الشروع فی تحلیلها یسیر البحث مع السیاق مجلیًا الوسائل البلاغیة، ودورها التداولی، وما حوت الخطبة من الإشاریات، والأفعال الکلامیة، والحجج والأدلة، وأثر ذلک کله فی جمهور المتلقین.

وقد اعتمد البحث فی التحلیل خمس عشرة خطبة، هی الخطب الطوال، متجاوزا بعض الخطب القصار التی لم یختلف مضمونها العام واستراتیجیة بنائها عن مضمون ما تم تحلیله واستراتیجیة بنائه، استغناء بالنظیر عن نظیره، وحتى لا یطول البحث بما لا یقدم جدیدا.

       ثم ذُیل البحث بخاتمة: فی نتائجه وتوصیاته، وقائمة للمصادر والمراجع، وفهرس للموضوعات.

وکانت المصادر المعتمد علیها فی استقاء مادة البحث الأولیة هی: جمهرة خطب العرب، لأحمد زکی صفوت، والعقد الفرید، والأغانی، والأمالی، وتاریخ الطبری، وسیرة ومناقب عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی، وسیرة عمر بن عبد العزیز، لابن عبد الحکم، وإعجاز القرآن، للباقلانی، وأبرز المراجع التداولیة المستعان بها: استراتیجیات الخطاب، للشهری، وآفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، لمحمود نحلة، والتداولیة عند العلماء العرب، لمسعود صحراوی، وغنی عن البیان أن الاعتماد فی التأصیل على أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، والإیضاح.  

تتقدم الباحثة بجزیل الشکر لجامعة القصیم ممثلة بعمادة البحث العلمی

على دعمها المادی لهذا البحث تحت رقم (3777) خلال السنة الجامعیة 1440هـ/ 2018 م

The author gratefully acknowledge Qassim uneversity, represented by the Deanship of ٍScientific Research, on the material support for this research under the number (3777) during the academic year 1440 AH/2018 AD

 


تمهید

قبل الشروع فی التحلیل والتطبیق لا بد للبحث من مهاد نظری موجز، یعرِّف بالتداولیة وأهم قضایاها والمصطلحات المتعلقة بها، ویلقی الضوء على عناصر السیاق (المرسِل، والمرسَل إلیه، وموضوع الخطاب).

أولا: التداولیة:

تدرس التداولیة اللغة فی الاستعمال؛ لذا تتقاطع مع عدة حقول معرفیة (لغویة، ونفسیة، واجتماعیة، وفلسفیة …)، وعلیه وردت لها عدة تعریفات:

من أبرزها ما قدمه فرانسیس جاک من کونها " دراسة اللغة باعتبارها ظاهرة خطابیة وتواصلیة واجتماعیة معا" ([1]) إذن موضوعها اللغة لکن لیست منعزلة على نحو ما کان من المدارس الشکلیة، وإنما باعتبارها أداة للتخاطب والتواصل فی سیاق اجتماعی محدد.

وجاء عن یول "التداولیة دراسة المعنى الذی یقصده المتکلم .... دراسة المعنى السیاقی .... دراسة کیفیة إیصال أکثر مما یقال" ([2]) ، وهذا التعریف تبرز فیه بعض مبادئ التداولیة (القصد، والسیاق، والاستلزام الحواری).

وعرفت -أیضا- بأنها "دراسة تهتم باللغة فی الخطاب، والوسمیات الخاصة به، قصد تأکید طابعه التخاطبی" . ([3])


وتُحَدّ أیضا بأنها "الدراسة أو التخصص الذی یندرج ضمن اللسانیات، ویهتم أکثر باستعمال اللغة فی التواصل" ([4])

وورد عن فان دایک أن" الفکرة الأساسیة فی التداولیة هی أننا عندما نکون فی حالة التکلم فی بعض السیاقات فنحن نقوم أیضا بإنجاز بعض الأفعال المجتمعیة وأغراضنا ومقاصدنا من هذه الأفعال" ([5])

ومن أشمل تعریفاتها أنها "اتجاه فی الدراسات اللسانیة، یعنى بأثر التفاعل التخاطبی فی موقف الخطاب، ویستتبع هذا التفاعل دراسة کل المعطیات اللغویة والخطابیة المتعلقة بالتلفظ، وبخاصة المضامین والمدلولات التی یولدها الاستعمال فی السیاق([6]) ، وتشمل هذه المعطیات:

1-معتقدات المتکلم ومقاصده، وشخصیته، وتکوینه الثقافی، ومن یشارک فی الحدث اللغوی.

2-الوقائع الخارجیة، ومن بینها الظروف المکانیة والزمانیة، والظواهر الاجتماعیة المرتبطة باللغة.

3- المعرفة المشترکة بین المتخاطبین وأثر النص الکلامی فیهما ([7])

وتعنى التداولیة "بالشروط اللازمة لکی تکون الأقوال اللغویة مقبولة وناجحة .


 وملائمة للموقف التواصلی الذی یتحدث فیه المتکلم. " ([8])

والآن نعرض أهم قضایا التداولیة التی تتراوح بین الأفعال الکلامیة والحجاج والإشاریات والافتراض المسبق والاستلزام الحواری:

1- الأفعال الکلامیة:

 نظریة الأفعال الکلامیة وضعها أوستین، حیث یرى أن "النطق بالجملة هو إنجاز لفعل أو إنشاء لجزء منه " ([9]) حسب أوضاع ومواقف.

وهو یرى أن "الفعل الکلامی مرکب من ثلاثة أفعال تؤدى فی الوقت نفسه الذی ینطق فیه بالفعل الکلامی: الفعل اللفظی: وهو النطق بأصوات لغویة ینتظمهـا ترکیب نحوی صحیح تؤدی معنى هو المعنى الأصلی وله مرجع یحیل إلیه، والفعل الإنجازی: ما یؤدیه الفعل اللفظی من وظیفة فی الاستعمال کالوعد والتحذیر والأمر والنصح.. إلخ، والفعل التأثیری : الأثر الذی یحدثه الفعل الإنجازی فی السامع أو المخاطب سواء أکـان تأثیـرا جسدیا أم فکریا أم شعوریا" ([10])

وقدم أوستین تصنیفا خماسیا لأفعال الکلام على أساس قوتها الإنجازیة:

 1- أفعال الأحکام: فی نحو حکم یصدره قاضٍ أو مسؤول ...

2 – أفعال القرارات: وتتمثل فی اتخاذ قرار معین کالإذن والطرد والتعیین ...

3-أفعال التعهد: تعهد المتکلم بفعل شیء کالوعد والضمان والتعاقد والنذر ...

4- أفعال السلوک: وتتمثل فی ردود أفعال لأحداث ما کالاعتذار والشکر ...

5 – أفعال الإیضاح: وتستخدم لإیضاح وجهة النظر، أو بیان الرأی مثل الاعتراض، والإنکار، والموافقة، والتصویب...([11])

على أن التطویر الأساسی للنظریة کان على ید تلمیذه (سیرل) الذی جعل الأفعال الکلامیة خمسة أصناف هی:-

1-اﻹﺧﺒﺎرﻳﺎت (التقریریات): والغرض الإنجازی فیها جعل المتکلم مسؤولا عن وجود وضع للأشیاء، وأفعال هذا الصنف کلها تحتمل الصدق أو الکذب، واتجاه المطابقة فیها من الکلمات إلى العالم، وشرط الإخلاص فیها یتمثل فی النقل الأمین للواقعة والتعبیر الصادق عنها وتشمل التأکید، والوصف ...

2-اﻟﺘﻮﺟﻴﻬﻴﺎت: وغرضها الإنجازی حمل الشخص على القیام بفعل معین، واتجاه المطابقة فیها من العالم إلى الکلمات، وشرط الإخلاص فیها یتمثل فی الرغبة الصادقة، وتشمل الأمر والنهی ... 

3- الالتزامیات: وغرضها الإنجازی التزام المتکلم بفعل شیء فی المستقبل، واتجاه المطابقة فیها من العالم إلى الکلمات، وشرط الإخلاص فیها هو القصد، وتشمل الوعد والوصیة ...

 4-التعبیریات: وغرضها الإنجازی هو التعبیر عن حالة نفسیة، ولیس لهذا الصنف اتجاه مطابقة، حیث لا علاقة بین الکلمات والعالم ، وشرط الإخلاص فیها هو الصدق، وتشمل الاعتذار والمواساة .  

5- الإعلانیات: والغرض الإنجازی فیها إحداث تغییر عن طریق الإعلان، ولا تحتاج إلى شرط إخلاص، واتجاه المطابقة فیها من الکلمات إلى العالم ومن العالم إلى الکلمات، وتشمل الإعلام، والإخبار، والإعلان ...([12])

2-الحِجاج:

یحتل الحِجاج مکانة بارزة فی التداولیة؛ إذ یمثل أحد أهم أرکانها إلى جانب نظریة الأفعال الکلامیة، فهو یسعى إلى تحلیل تقنیات الخطاب، التی تجعل المرسِل یحظى بإذعان المرسل إلیه، وتدفعه إلى مراده.

ویعرف بیرلمان الحجاج فی مؤلفه (مصنف فی الحجاج) بأنه "درس تقنیات الخطاب التی من شأنها أن تؤدی بالأذهان إلى التسلیم بما یعرض علیها من أطروحات أو أن تزید فی درجة ذلک التسلیم " ([13])

أما وظائفه فهی "أولا: الإقناع الفکری الخالص، ثانیا: الإعداد لقبول أطروحة ما، ثالثا: الدفع إلى الفعل" ([14]).

فالحجاج له دور بالغ فی التأثیر على السامع، من هنا تبرز له غایة تداولیة.

وأطراف الحجاج ثلاثة: المحاج، والسامع، وموضوع الخطاب "تقابل المصطلحات الأرسطیة: الإیتوس، والباتوس، واللوغوس" ([15]) وجمیعها محل اهتمام التداولیة.

أما دیکرو وأنسکومبر فقد وجها اهتمامهما إلى الوسائل اللغویة، فقد "وضع اللغوی الفرنسی دیکرو فی سنة1973م نظریة لسانیة تهتم بالوسائل اللغویة وبإمکانات اللغات الطبیعیة التی یتوفر علیها المتکلم، وذلک بقصد توجیه خطابه وجهة ما، تمکنه من تحقیق بعض الأهداف الحجاجیة، ثم إنها تنطلق من الفکرة الشائعة التی مؤداها: أننا نتکلم عامة بقصد التأثیر" ([16]) ومن أهم ما أسفرت عنه هذه النظریة السلم الحجاجی.

والمبدع فی الخطاب الحجاجی یعمل على استثمار کل ما من شأنه أن یمنح أو یزید فی فعالیة الخطاب ونجاعته، من تقنیات مختلفة: لغویة وبلاغیة، وأدلة صناعیة أو غیر صناعیة، ومکونات معرفیة واجتماعیة ونفسیة وغیرها.

وبقدر نجاحه فی توظیفها وترتیبها یتحقق الهدف من الخطاب.

3-الإشاریات:

یحتوی الخطاب على عناصر لغویة مبهمة لا یتضح معناها إلا بمرجعها من خلال السیاق، مثل ضمائر التکلم والخطاب، وأسماء الإشارة، وما یدل على زمان أو مکان ...، وقد أولاها الدرس التداولی عنایة لما تؤدیه من أغراض ومقاصد طبقا للمقام الذی تساق فیه، وهی أنواع منها ([17]):

1-إشاریات شخصیة: ضمائر التکلم، وضمائر الخطاب، تمثل عناصر إشاریة لأن السیاق لازم لمعرفة من المتکلم ومن المخاطب.

2-إشاریات زمانیة: کلمات تدل على زمان یحدده السیاق بالقیاس إلى زمن التکلم، مثل: أمس، وغدا، والآن…

3-إشاریات مکانیة: عناصر إشاریة یعتمد استعمالها وتفسیرها على معرفة مکان المتکلم وقت التکلم، أو على مکان آخر معروف للمخاطب، ویکون لتحدید المکان أثره فی العناصر التی تشیر إلیه قربا أو بعدا أو وجهة، مثل هنا وهناک، وفوق وتحت وأمام وخلف …

4-إشاریات اجتماعیة: ألفاظ وتراکیب تشیر إلى العلاقة الاجتماعیة بین المتکلمین والمخاطبین، من حیث هی علاقة رسمیة أو علاقة ألفة ومودة.

4-الافتراض المسبق:

معرفة قارة فی ذهن کل من المتکلم والمخاطب یبنی علیها المتکلم خطابه واثقا من أن المخاطب یستطیع فهم خطابه وتأویله بناء علیها، ذلک أنه " فی کل تواصل لسانی ینطلق الشرکاء من معطیات وافتراضات معترف بها ومتفق علیها بینهم، تشکل هذه الافتراضات الخلفیة التواصلیة الضروریة لتحقیق النجاح فی عملیة التواصل، وهی محتواة ضمن السیاقات والبنى الترکیبیة العامة ففی الملفوظ (أغلق النافذة) و(لا تغلق النافذة) فی کلیهما خلفیة (افتراض مسبق) مضمونه أن النافذة مفتوحة " ([18])

وهو ما نقله الباحثان ج.براون، وج.یول عن ستالناکر" إن عملیات الافتراض هی ما یعتبره المتکلم أرضیة مشترکة مسلما بها لدى کل أطراف المحادثة " ([19]).

والافتراض المسبق مسؤولیة المتکلم، ذلک "أن المتکلمین یفترضون أن مستمعیهم عارفون بعض المعلومات، لا تذکر هذه المعلومات کونها تعامل على أنها معروفة، ولذا فإنها تعتبر جزءا مما یتم إیصاله دون قوله ... هو شیء یفترضه المتکلم یسبق التفوه بالکلام، أی أن الافتراض المسبق موجود عند المتکلمین، ولیس فی الجمل " ([20])

 5-الاستلزام الحواری:

       یعد أحد أهم جوانب الدرس التداولی، ورائده هو (جرایس) الذی انطلق من فکرة أن الناس قد یقصدون ما یقولون، وقد یقصدون أکثر مما یقولون، وقد یقولون عکس ما یقصدون، فأراد أن یفرق بین ما یقال وما یقصد، فما یقال هو ما تعنیه الکلمات بقیمها اللفظیة، وما یقصد هو ما یرید المتکلم تبلیغه للسامع عن طریق الفعل غیر المباشر، فأراد أن یقیم جسرا بین ما هو صریح وما هو متضمن فی القول، فنشأت عنده فکرة الاستلزام.([21])

"فالاستلزام الحواری یتعلق بالدلالات الضمنیة التی یستلزمها السیاق الکلامی. ومن ثم، یرتبط الاستلزام الحواری بنظریة الأفعال کما هی عند أوستین وسیرل. أی: ینتقل الکلام من نطاق حرفی وقضوی مباشر إلى معنى حواری استلزامی غیر مباشر، ویتحکم فیه المقام أوالسیاق التداولی" ([22])

       وقد بنى (جرایس) نظریته على مبدأ التعاون الذی یتفرع عنه أربعة مبادئ: هی الکم، والکیف، والمناسبة، والطریقة، تفاصیلها مبثوثة فی مظانها، وإذا حدث انتهاک لأحدها نتج عن الکلام استلزام حواری أی معنى ضمنی حسب السیاق غیر معناه الصریح.([23])

کانت هذه إطلالة سریعة اتضح بها مفهوم التداولیة وعُرِفت أهم قضایاها، والآن إلى عناصر السیاق.

ثانیا: عناصر السیاق:

1- المرسِل: عمر بن عبد العزیز بن مروان، الخلیفة الصالح، أبو حفص، خامس الخلفاء الراشدین.[..........] ولد عمر بحلوان، قریة بمصر، وأبوه أمیر علیها سنة إحدى، وقیل: ثلاث وستین وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وکان بوجه عمر شجة، ضربته دابة فی جبهته، وهو غلام، فجعل أبوه یمسح الدم عنه، ویقول: إن کنت أشج بنی أمیة إنک لسعید، أخرجه ابن عساکر.

روى عمر بن عبد العزیز عن أبیه، وأنس، وعبد الله بن جعفر بن أبی طالب، وابن قارظ، ویوسف بن عبد الله بن سلام، وعامر بن سعد، وسعید بن المسیب، وعروة بن الزبیر، وأبی بکر بن عبد الرحمن، والربیع بن سمرة، وطائفة.

وروى عنه: الزهری، ومحمد بن المنکدر، ویحیى بن سعید الأنصاری، ومسلمة بن عبد الملک، ورجاء بن حیوة، وخلائق کثیرون.

جمع القرآن وهو صغیر، وبعثه أبوه إلى المدینة یتأدب بها، فکان یختلف إلى عبید الله بن عبد الله یسمع منه العلم، فلما توفی أبوه طلبه عبد الملک إلى دمشق وزوجه ابنته فاطمة.

وکان قبل الخلافة على قدم الصلاح أیضًا، إلا أنه کان یبالغ فی التنعم، فکان الذین یعیبونه من حساده لا یعیبونه إلا بالإفراط فی التنعم والاختیال فی المشیة، فلما ولی الولید الخلافة أمر عمر على المدینة، فولیها من سنة ست وثمانین إلى سنة ثلاث وتسعین، وعزل، فقدم الشام.

قال زید بن أسلم عن أنس رضی الله عنه: ما صلیت وراء إمام بعد رسول الله -صلى الله علیه وسلم- أشبه صلاة برسول الله -صلى الله علیه وسلم- من هذا الفتى -یعنی: عمر بن عبد العزیز- وهو أمیر على المدینة.

بویع بالخلافة بعهد من سلیمان، فی صفر سنة تسع وتسعین، فمکث فیها سنتین وخمسة أشهر، نحو خلافة الصدیق -رضی الله عنه- ملأ الأرض عدلًا، وردّ المظالم، وسن السنن الحسنة.

توفی عمر بن عبد العزیز -رضی الله عنه- بدیر سمعان -بکسر السین- من أعمال حمص لعشر بقین -وقیل: لخمس بقین- من رجب سنة إحدى ومائة، وله حینئذ تسع وثلاثون سنة وستة أشهر، وکانت وفاته بالسم، کان بنو أمیة قد تبرموا به؛ لکونه شدد علیهم وانتزع من أیدیهم کثیرًا مما غصبوه، وکان قد أهمل التحرز فسقوه السم.([24])

 حُسن بیانه:

کان انکبابه على علوم الدین والحدیث والقرآن سبیلا لإرهاف حسه اللغوی بین قوم من خالصة العرب …. ولم یؤمن عمر بقول لا یحققه العمل، بل کان یرى القول والعمل شیئا واحدا، وإنما أحدهما بعض الآخر، … وقد کان یصدر عن نیة صارمة وقلب صادق حین یتکلم؛ ولذلک سمعت آذان الناس فی مدته ومنه صوتا صارخا لم تسمعه من قبل إلا فی صوت رسول الله وبعض أصحابه، وکانت عظته وقراءته تثیر القلوب والأشجان حتى یرتج المسجد بالبکاء وکأن حیطانه تبکی، حتى إذا رأى الناس قد أخذوا بقوله وفتنوا ببلاغته قطع کلامه مظنة أن یطغى رنینه على معناه ومخافة المباهاة .... وکما کان عمر صادقا فی قوله، کان حسن الأداء حتى إنه لیفتن المسافر عن سفره فیقیم لیسمعه ….  وما من قول له إلا وهو یضرب فی البلاغة بسهم، حتى اشتهرت له کلمات صار لهن مقام الحکمة وبلیغ الأثر من مثل قوله (إنی لست بمبتدع ولکنی متبع)، (لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق) وغیرهما.

وقد کان سریع الخاطر فی سبک الکلام؛ فالعدة لدیه حاضرة والصدق یعینه، ….. ولما آمن أشد الإیمان بفعل البلاغة فی نفوس الناس لم تخمد همته فیها، ورأى حسن البیان شرطا لازما للحاکم عامة، فإذا تولى الحاکم هدایة الناس وإرشادهم کانت له ألزم، ولم یغب عنه أن لإجادة القول سیطرة على القلوب وهیمنة على النفوس، وقد یقاد بها الناس کما تقاد الإبل الآنفة لتحمل على الطریق. ([25]) 

من خلال هذا الوصف الذی أطر لشخصیة المرسل یمکن القول إن صورة عمر بن عبد العزیز ومکانته فی المجتمع تجعل لخطابه قوة إقناعیة عظیمة تجعل المستمع أمامها لا یجد بدا من التسلیم، وتدفع إلى السلوک القویم.

وتستمد خطبه سلطتها من مقدرته اللغویة والخطابیة ومن سلطة الحاکم، فتکتسب قدرة على التأثیر.

2-المرسَل إلیه: جمهور الرعیة ممن یحضر الخطب، وسائر المسلمین فی أرجاء الدولة الإسلامیة کمستمع کونی.

3- موضوع الخطاب: والسیاق العام للخطب تغییر الحال عما کان علیه عند أسلافه -حیث لاقى الناس ما لاقوا على أیدی حکام بنی أمیة- والنصح والحث على التکافل والزهد فی الدنیا، والتذکیر بالموت والآخرة، وتوجیه الرعیة إلى ما فیه النفع، وتختص بعض الخطب بتفصیل لا یخرج عن السیاق العام، وقد اقتضى هذا السیاق لفت انتباه الناس، والحرص على جذبهم إلیه عن طریق النداء والأمر، واستدعى تأکید نصوصه للإقناع بمراده.


الخطبة الأولى: شورى فقهاء المدینة

فی سنة 87هـ ولَّى الولیدُ عمرَ بن عبد العزیز المدینة، فلما قدمها صلى الظهر ودعا عشرة من فقهائها، فدخلوا علیه، فجلسوا، فحمد الله وأثنى علیه بما هو أهله، ثم قال:

"إنی إنما دعوتکم لأمر تؤجرون علیه، وتکونون فیه أعوانًا على الحق، ما أرید أن أقطع أمرا إلا برأیکم أو برأی من حضر منکم، فإن رأیتم أحدا یتعدى أو بلغکم عن عامل لی ظلامة فأُحَرِّج ([26]) اللهَ على من بلغه ذلک إلا بلَّغنی".

فخرجوا یجزونه خیرًا.(([27]

یحرص الرجل على اصطحاب الفقهاء الصالحین، ویطلب منهم العون على الحق وعلى رفع الظلم عن المظلومین، ولا یستبد برأیه.

إذن رسم -منذ البدایة- صورة الحاکم الذی یستحق أن یکون له السمع والطاعة.

       لم یأت الرجل المدینة یهدد ویتوعد المخالفین بأن یکون یوم کیوم الحرة، وإنما جاء مصلحا، یرید أن یحق الحق، ویرفع الظلم، ویطلب من الفقهاء المعونة على ذلک.

(إنی إنما دعوتکم لأمر تؤجرون علیه) موجه الحجاج هنا یدل على أن الکلام یتجه وجهة إیجابیة، فهو یبدأ بدایة مطمئنة، مؤکدا مقصده بـ(إن) والقصر بـ(إنما) أی ما دعوتکم إلا لما تؤجرون علیه، لینفی کل ما یمکن أن یکون سببا للدعوة مما یمکن أن تحدث به نفوسهم.

والجملة مبنیة على افتراض مسبق هو تساؤلهم عن سبب الدعوة؛ لذا بدأ بالتأکید (إنی إنما).

والترغیب بقوله (لأمر تؤجرون علیه) یعتمد على العرف الاجتماعی والدینی الذی یقتضی تنفیذ ما فیه أجر بإقبال وحب.

إنه أراد أن یکونوا مستشاریه (ما أرید أن أقطع أمرا إلا برأیکم أو برأی من حضر منکم) وتعد الجملة من الأفعال الکلامیة الالتزامیة، حیث یلزم المتکلم نفسه بفعل فی المستقبل عن قصد وإخلاص، یلزمنفسه بأنیستشیرهمکلماعنَّ له أمر.

وفی سبیل إقناعهم بذلک یورد مراده فی صورة قصر بطریق النفی والاستثناء، فهو یؤکد لهم ذلک على وجه لا یدع مجالا للشک فی أنه لن یقضی أمرا منفردا، ولن یستبد برأی، فکان کلامه حجة احتوت على قیاس یمکن تأویله هکذا:

        أنتم أعوان على الحق.

        ما أرید أن أقطع أمرا إلا برأیکم.

        ن([28]): أنتم مستشاریَّ

       ولا یقتصر الأمر على ما یکون بین یدیه، بل یتعداه إلى إبلاغه ما غاب عنه؛ رفعا للظلم وإقامة للعدل یقول (فإن رأیتم أحدا یتعدى أو بلغکم عن عامل لی ظلامة فأُحَرِّج اللهَ على من بلغه ذلک إلا بلَّغنی) وفی هذا إحالة إلى العالم الخارجی وما یحدث فیه ولا یکون على مرأى ومسمع منه، وهنا یحاج بصاحب السلطان الأعظم سبحانه (فأُحَرِّج اللهَ) لیلزمهم تبلیغه بما غاب عنه من تعدٍ أو ظلامة إذ یبنی على افتراض إمکان إخفاء شیء عنه، وهنا تتعدى الجملة الإقناع إلى الدفع إلى العمل وهو التبلیغ، فالجملة قامت مقام القسم، والقسم یؤکد المقسوم علیه، والتأکید داع إلى الإقناع ومحفز علیه، فالتداولیة هنا ظل للبلاغة یتبعها.

وقد تعادلت إشاریات المتکلم مع إشاریات المخاطبین فی العدد، حیث للمتکلم الیاء فی (إنی، ولی، وبلغنی) والتاء فی (دعوت) والضمیر المستتر فی (أرید، وأقطع، وأحرج)، وللمخاطبین الکاف فی (دعوتکم، رأیکم، منکم، وبلغکم) والواو فی (تؤجرون، وتکونون) والتاء فی (رأیتم) سبع إشاریات للمتکلم وسبع للمخاطب، مما یوحی بأنه یسوی بینه وبینهم فی اتخاذ القرار فی الأمور، وأنه أمر مشترک یتجاذبه الطرفان، لا یستبد به واحد.

و(عامل لی) إشاریة اجتماعیة رسمیة تشیر إلى علاقته بالمتکلم، التی تبین أن ما یقترف من ظلم یعود وباله على المتکلم.

ویلاحظ أنه استخدم من الآلیات البلاغیة ما یلی:

1-القصر (إنما، والنفی والاستثناء)

2-التشویق فی قوله (لأمر تؤجرون علیه) لیکون موجها للحجاج حافزا على الإصغاء، أدعى للاستمالة.

3- التنکیر فی (أحدا، وعامل) وقد أفاد العموم، فدخل فیه من کان من أهله وخاصته، أی فإن رأیتم أحدا أو بلغکم عن عامل ولو کان من أهلی وخاصتی بلغونی؛ فالحق والعدل یعلوان على کل العلاقات والصلات ووشائج القربى، فهذا یقنع المخاطبین بجدیة الرجل فی إحقاق الحق وإقامة العدل، وفی (ظلامة) تنکیر تقلیل، أفاد أنه لا یتهاون فی الظلم ولو کان قلیلا، فربما جر فی غده إلى کثیر، فلا بد من حسمه بالعقاب قبل أن یستفحل أمره، کل هذا من شأنه أن یرسم شخصیة المحاج، ویکشف عن أبعادها، وبالتالی یقنع مخاطبیه.

       ترى هل حققت هذه الآلیات البلاغیة وظلالها التداولیة نجاعة الخطاب؟ هذا ما تجیب عنه العبارة (فخرجوا یجزونه خیرًا) فقد تحقق تأثیر الخطبة فی مخاطبیه، ومعنى هذا أنهم اقتنعوا به وبمراده، وأنهم سیلزمون أنفسهم بما حرج علیهم فیه.


الخطبة الثانیة: لا مهرب من الموت

روى المسعودی فی مروج الذهب، أنه لما أفضى إلیه الأمر، کانت أول خطبة خطب الناس بها أن قال:

"أیها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت فروعها([29])، فما بقاء فرع بعد أصله؟ وإنما الناس فی هذه الدنیا أغراض تنتضل([30]) فیهم المنایا، وهم فیها نصب المصائب، مع کل جرعة شرق ([31])، وفی کل أکلة غصص، لا ینالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا یعمر معمر منکم یومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجله".

وأورد القالی فی الأمالی هذه الخطبة بصورة أطول، وهی:

"ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فیما لا یرجى، وما الحیلة فیما سیزول؟ وإنما الشیء من أصله، فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ إنما الناس فی الدنیا أغراض تنتضل فیهم المنایا، وهم فیها نهب للمصائب، مع کل جرعة شرق، وفی کل أکلة غصص، ولا ینالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا یعمر معمر یوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسکم، فأین المهرب مما هو کائن؟ وإنما نتقلب فی قدرة الطالب، ما أصغر المصیبة الیوم، مع عظیم الفائدة غدا، وأکبر خیبة الخائب فیه، والسلام".([32])

        یبدأ بالإنشاء لجذب الأسماع واسترعاء الانتباه (أیها الناس) بحذف حرف النداء إسراعا فی الوصول إلیهم، ودلالة على قربهم من قلبه، فلیسوا فی حاجة إلى وساطة حرف النداء، والنداء إنجاز لفعل الإقبال.

 (إنما نحن من أصول قد مضت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟) ینطلق من مبدأ حجاجی مسلم به هو هلاک السابقین؛ لیستدرج المخاطب إلى النتیجة التی یریدها، ویمکن أن یصاغ القیاس هکذا :

إنما نحن فروع قد مضت أصولها

الفروع تؤول مآل الأصول   

ن: نحن ماضون

وقد اتخذ (إنما) طریقا للقصر لأن الأمر معلوم لجمهور المخاطبین مسلم به، وأتبع بالاستفهام (فما بقاء فرع بعد أصله؟) الذی فعله الإنجازی النفی، أی لا بقاء للفرع بعد أصله، وإنما یلحقه عما قریب، أو التقریر لیقر المخاطب بأن بقاءه بعد أصله قلیل.

وما أجمل التصویر فی قوله (وإنما الناس فی هذه الدنیا أغراض تنتضل فیهم المنایا) إذ یشبه الناس بأغراض قد نصبت لترمیها المنایا بسهامها، فهم مقصدها الموجهة إلیه ولن تخطئهم المنایا کما لا یخطئ السهم الغرض، بل تصیبهم واحدا واحدا إن لم یکن الیوم فغدا.

تراه یبغی التأثیر النفسی والانفعالی من هذه الصورة التشبیهیة بالإضافة إلى الإقناع، حین یتخیل المرء نفسه عرضة للإصابة بسهم المنیة فی أی وقت، فعلامَ ولمَ یحرص على الدنیا؟ حینها یزهد فیها، ویعمل لدار المستقر.

والاستلزام الحواری للصورة التشبیهیة هو سرعة انقضاء الدنیا وتولیها؛ فکل ستناله المنیة حتما ولو بعد حین.

والحصر ب(إنما) یعمل على قوة الحجة، فهم لیسوا إلا أغراضا للمنایا ینحصر أمرهم فی ذلک، وجملة (تنتضل) صفة لنکرة غایتها التداولیة هی الإیضاح.([33])

       وقبل أن تحین منایاهم (هم فیها[الدنیا] نصب المصائب) تتابع علیهم مع کل حدث، فی کل شربة ماء، وفی کل لقمة عیش (مع کل جرعة شرق، وفی کل أکلة غصص) والتنکیر إبهام فهما شرق وغصص لا یعلم مداهما إلا الله.

       وتراه یستخدم الإطناب تقنیة للإقناع؛ إذ أجمل فی قوله(هم فیها نصب المصائب) ثم فصل بقوله (مع کل جرعة شرق، وفی کل أکلة غصص،لا ینالون نعمة إلا بفراق أخرى) ففراق النعمة من جملة المصائب، وفی هذه الجملة والتی بعدها یستخدم القصر بقصد التأکید؛ لیمثل فعلا کلامیا تقریریا؛ فقد قصر (نوال النعمة) على کونه (بفراق أخرى) وهذا یمثل أیضا آلیة بلاغیة للحجاج ترمی إلى الإقناع بالزهد فی الدنیا، والتوجه نحو الآخرة.

وقصر (تعمیر یوم) على کونه (بهدم آخر من الأجل) وهذه حقیقة یغفل الناس عنها، فعمل على تذکیرهم بها، أی أنتم ماضون ماضون إلى الموت، فکل یوم ینقص من أعمارکم، وقد اتخذ آلیة التقابل للتدلیل على إنتاج الشیء لنقیضه، إذ التعمیر ینتج هدما، هذه المفارقة تعمل على استرعاء انتباه المخاطب، وحسن إصغائه إلى ما یسمع؛ لیعی ویقنع.

و(الیوم) هنا إشاریة زمانیة إلى قصر المدة.

روایة القالی فی الأمالی:

(ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فیما لا یرجى، وما الحیلة فیما سیزول؟) یقرع الأسماع بهذه الاستفهامات المتتالیة؛ لیشد انتباه المخاطبین وغرضه النفی، أی لا جزع مما لا بد منه، ولا طمع فیما لا یرجى، ولا حیلة فیما سیزول، فالاستفهام هنا من الأفعال الکلامیة، تولد عنه فعل إنجازی هو النفی.

والجملة الأولى مبنیة على افتراض مسبق موجود فی الخلفیة المعرفیة للمخاطبین هو الجزع من الموت، والثانیة على طمع الناس فی متاع الدنیا والمال الذی تحت سلطة الخلفاء، والثالثة على احتیال الناس فی طلب المال.

وصلة الموصول فی الجمل الثلاث غایتها التداولیة إیضاح الإبهام فی الاسم الموصول، ویعد هذا من تقریریات سیرل، فالتداولیة الغربیة لم تضف إلى العربیة شیئا ذا بال فی هذا الشأن؛إذ عُرِّف الاسم الموصول فی العربیة بأنه الاسم المبهم الذی یفتقر إلى صلة وعائد،([34])فالصلة تقوم بتوضیحه، ومن دواعی تعریف المسند إلیه بالموصولیة فی البلاغة العربیة "کونه غیر معلوم إلا بالصلة" ([35])أی أن الصلة هی التی تجعله معلوما واضحا للسامع بعد أن کان مبهما بدونها. 

(وأنتم أعوان الحتوف على أنفسکم، فأین المهرب مما هو کائن؟، وإنما نتقلب فی قدرة الطالب، ما أصغر المصیبة الیوم، مع عظیم الفائدة غدا، وأکبر خیبة الخائب فیه) أی تسعون إلى حتوفکم بأنفسکم بهدم أیام أعمارکم، وهذه صورة فیها تشخیص للحتوف، أبرزها فی صورة أشخاص لدیهم معاونون یساعدونهم فیما یطلبون، وفی ذلک إقناع للمخاطبین بالمآل المحتوم مصحوبا بالتأثیر النفسی والانفعالی للاستعارة.

لذلک یعضد بقوله (فأین المهرب مما هو کائن؟) لیؤول الاستفهام إلى النفی، أی لا مهرب مما هو کائن، وهو بهذا الاستفهام یضع المخاطب أمامه، ویوجه إلیه السؤال لیرجع إلى نفسه باحثا عن الجواب؛ لیجیب بالنفی مُقِرا، فیکون المخاطِب أقام على المخاطَب حجة من نفسه.

       ویستعمل الحصر بـ(إنما) فی قوله (وإنما نتقلب فی قدرة الطالب) لیفید حصر القدرة فی الطالب، ونفیها عن المطلوب، أی لا نملک من أمر أنفسنا شیئا، وتعد الجملة من الأفعال الکلامیة التقریریة.

وقد استخدم الاستراتیجیة التضامنیة فی تعبیره بضمیر المتکلم الجمعی المستتر فی (نتقلب) لیدل على تماهیه مع المخاطبین؛ لیقول: أنا منکم ومعکم، وهذا یوعز إلیهم بقبول نصحه والإذعان له.

(ما أصغر المصیبة الیوم، مع عظیم الفائدة غدا) لعله یقصد مصیبة الموت أو الفقر، أی هی صغیرة هینة الیوم إذا ما ربحنا الغد أی الآخرة، فالجملة مبنیة على افتراض مسبق هو عد الناس الموت أو الفقر مصیبة عظیمة.

 وتراه یستخدم فنیة التقابل بین (صغر المصیبة الیوم) و(عظم الفائدة غدا) لتتضح الصورة بالتضاد؛ فیرجح المخاطب کفة الغد الباقی وما فیه من فائدة عظیمة، فیعمل لأجله، ویعزف عن یومه الفانی.

(وأکبر خیبة الخائب فیه) أی فی الغد، فما أکبرها من خیبة؛ إذ لا مجال للتوبة ولا تصحیح للمسار، وهنا یستخدم التعجب کآلیة لغویة للحجاج، ویعضدها بالتکرار الصوتی فی (خیبة الخائب) لترسیخ التصاق الصفة بمن یفرط ویشتری الدنیا بالآخرة.

والوصف (اسم الفاعل) (الخائب) آلیة لغویة للحجاج حیث "یعتبر اسم الفاعل من نماذج الوصف التی یدرجها المرسل فی خطابه بوصفها حجة؛ لیسوغ لنفسه إصدار الحکم الذی یرید، لتنبنی علیه النتیجة التی یرومها" [36] وقد صنف به المرسل من یشتری الدنیا بالآخرة فی فئة باءت بالخیبة، وبنى علیه التعجب من کبرها وفداحتها.

وقوله (قد مضت قبلنا أصول نحن فروعها) إشاریة زمانیة تبحث فی عمق الماضی فلا تجد باقیا ممن کان، (الیوم، وغدا) إشاریتان زمانیتان تقارنان الحاضر بالمستقبل، وقوله (فأین المهرب؟) إشاریة مکانیة تشیر إلى استحالة وجود مکان للهروب.


الخطبة الثالثة: التقوى

وروی أنه لما دفن سلیمان بن عبد الملک، وخرج من قبره، سمع للأرض رجة، فقال: ما هذه؟ فقیل: هذه مراکب الخلافة یا أمیر المؤمنین، قربت إلیک لترکبها، فقال: ما لی ولها؟ نحوُّها عنی، قربوا إلی بغلتی، فقربت إلیه، فرکبها. وجاءه صاحب الشرطة یسیر بین یدیه بالحربة، فقال: تنحَّ عنی، ما لی ولک؟ إنما أنا رجل من المسلمین، فسار، وسار معه الناس، حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إلیه الناس، فقال:

"أیها الناس: إنی قد ابتلیت بهذا الأمر عن غیر رأی کان منی فیه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمین، وإنی قد خلعت ما فی أعناقکم من بیعتی، فاختاروا لأنفسکم".

فصاح الناس صیحة واحدة: قد اخترناک یا أمیر المؤمنین، ورضینا بک، فَلِ أمرنا بالیمن والبرکة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضی به الناس جمیعًا، حمد الله، وأثنى علیه، وصلى على النبی صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ، وقال:

"أوصیکم بتقوى الله، فإن تقوى الله خَلَفٌ من کل شیء، ولیس من تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَفٌ، واعملوا لآخرتکم، فإنه من عمل لآخرته کفاه الله -تَبَارَکَ وَتَعَالَى- أمر دنیاه وأصلحوا سرائرکم، یصلح الله الکریم علانیتکم، وأکثروا ذکرَ الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ینزل بکم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا یذکر من آبائه فیما بینه وبین آدم علیه السلام أبًا حیًّا لمعرق فی الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف فی ربها عَزَّ وَجَلَّ، ولا فی نبیها صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ، ولا فی کتابها، وإنما اختلفوا فی الدینار والدرهم، وإنی والله لا أعطی أحدًا باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا، إنی لست بخازن، ولکنی أضع حیث أمرت، أیها الناس: إنه قد کان قبلی ولاة تجترون([37]) مودتهم، بأن تدفعوا بذلک ظلمهم عنکم، ألا لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطیعونی ما أطعت الله فیکم، فإذا عصیت الله فلا طاعة لی علیکم. أقول قولی هذا، وأستغفر الله العظیم لی ولکم".([38])

یبدأ بـ(أیها الناس) والنداء إنجاز لفعل الإقبال، فهو من الأفعال الکلامیة التوجیهیة.

ویُتبِع النداءَ إخبارًا بقوله (إنی قد ابتلیت بهذا الأمر عن غیر رأی کان منی فیه) ویلقی الکلام مؤکدا بـ(إن) و(قد) لیفید عمق قناعته بأن تولی الحکم ابتلاء قل من وفق فی تلقیه والصبر علیه والقیام بأعبائه.

وأشار إلى الحکم بقوله (بهذا الأمر) ولم یذکره بلفظه تحاشیا للتلبس به، ونبذا له.

ونراه یبرأ منه بقوله (من غیر رأی کان منی) ثم یتبع (ولا طلبة له) ثم یتبع (ولا مشورة من المسلمین) فیسبب علیه (وإنی قد خلعت ما فی أعناقکم من بیعتی، فاختاروا لأنفسکم) إنه یرید الخلاص على أیة حال.

وهنا تراه یشبه البیعة بأطواق فی الأعناق، ثم یحذف المشبه به ویرمز إلیه بشیء من لوازمه وهو الخلع من الأعناق على سبیل الاستعارة المکنیة، وهنا تتضح حجاجیة الصورة واتخاذها وسیلة للإقناع، و"الاستعارة من الوسائل التی یستغلها المتکلم للوصول إلى أهدافه الحجاجیة، بل إنها من الوسائل التی یعتمدها بشکل کبیر جدا، ما دمنا نسلم بفرضیة الطابع المجازی للغة الطبیعیة، وما دمنا نعتبر الاستعارة إحدى الخصائص الجوهریة للسان البشری" ([39]) وقد شاع هذا المجاز حتى قارب أن یکون حقیقة، فهو یرید أن یقول: أنتم فی حل من هذه البیعة. فالاستلزام الحواری للجملة: لست طامعا فی الخلافة، بل أنا متنازل عنها.

ویؤکد کلامه -حتى لا یتوهم کونه متجملا- بـ(إن) و(قد) لأن الناس یأبون إلا أن یکون هو الخلیفة، وینکرون تنحیه عنها، والتأکید یدخل ضمن التقریریات من أقسام الأفعال الکلامیة.

       وحین أصر الناس على اختیاره حاکما وأصبح الأمر حتما شرع فی توصیة الناس وعظتهم، فبقیة الخطبة حتمها السیاق الحالی وهو رد فعل الناس على خلعه البیعة من أعناقهم وإباؤهم إلا أن یکون هو الخلیفة، هنا سار الکلام فی اتجاه آخر، وقد مثل إقرارا وقبولا للبیعة، حیث قام مقام الموصی لهم بتقوى الله، حیث إحساسه بالمسؤولیة عنهم، ووضع سیاسة العطاء، وبین لهم متى تجب على الناس طاعته.

       ینطلق من خلفیة معرفیة مشترکة بینه وبین المخاطبین هی العقیدة الإسلامیة بروافدها من القرآن والسنة والتاریخ الإسلامی، فیقول (أوصیکم بتقوى الله) فی هذه الجملة قام الخبر مقام الإنشاء (اتقوا) للتأکید والتقریر؛ لأن الوصیة أدل على الحرص على ما ینفع من توجیه الأمر المباشر. والجملة من الأفعال الکلامیة عند التداولیین؛ إذ هی إنشاء للوصیة وحث على التزامها، فقد "انطلق أوستین من ملاحظة بسیطة مفادها أن الکثیر من الجمل التی لیست استفهامیة أو تعجبیة  أو أمریة لا تصف مع ذلک أی شیء، ولا یمکن الحکم علیها بمعیار الصق أو الکذب، وبالفعل لا تستعمل هذه الجمل لوصف الواقع بل لتغییره، …. فقد فکر فی جمل من قبیل (آمرک بالصمت) …. أو (أعدک بأن آتی غدا) لا تقول شیئا عن حالة الکون وإنما تسعى إلى تغییره، فقائل (آمرک بالصمت) یسعى إلى فرض الصمت على مخاطبه، یحتمل أنه یرید الانتقال من حالة الضجیج إلى حالة السکون، …..، وقائل (أعدک بأن آتی غدا) یخلق التزاما وضربا من العقد الأخلاقی بینه وبین مخاطبه، وهو عقد غیر موجود قبلا" ([40]) وهو ینشد التغییر بإنشاء هذه الوصیة، وقد سبقت البلاغة العربیة إلى هذا فی وقوع الخبر موقع الإنشاء([41]).

(فإن تقوى الله خَلَفٌ من کل شیء، ولیس من تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ) تتضح صورة التأکید وبراعة منح الحکم للتقوى وسلبه عن غیرها؛ فالتقوى تخلف کل شیء، لکن لا شیء یخلفها أو یعوضها إذا فقدت.

وقد جاءت الجملة تعلیلا للوصیة بالتقوى، واستعمل فیها من الآلیات اللغویة للحجاج التأکید بـ(إن) والتکرار وزینها بمحسن بدیعی هو الإرصاد للفقرة الذی یجعل مخاطبیه ینطقون به مُقرّین قبل أن یصل إلیه، ولیس بعد ذلک مبتغى؛ فإذا نطقوا بکلمة (خلف) فی آخر الفقرة فقد سلموا واقتنعوا بفحوى العبارة، وبالتالی یحملهم هذا على الجد فی تحصیل التقوى.

(واعملوا لآخرتکم، فإنه من عمل لآخرته کفاه الله تَبَارَکَ وَتَعَالَى أمر دنیاه) فإصلاح الآخرة کفیل بإصلاح الدنیا، وهنا یضمِّن کلامه من معانی القرآن معنى قوله تعالى )مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَکَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ(  النحل97. وهذا من قبیل الاحتجاج بالشاهد، واستمداد السلطة من معانی کتاب الله تعالى.

ویقابل بین (الآخرة) و(الدنیا) على نحو یجعل لأولاهما الفوق والغلبة، فإذا صلحت صلح أمر الدارین معا، فإن السامع إذا ورد علیه الأمر بالعمل للآخرة دار بخلده السؤال: وماذا عن هم الدنیا ومطالبها، من ذا یکفله لی؟ فجاءت الطمأنة بأن الله یکفیک أمرها، وهو الضامن لها شریطة أن تضمن أنت العمل للآخرة، وفی هذا إقناع للمخاطب، ودفع له إلى العمل الصالح الذی یکفل له صلاح الدارین معا فی آن واحد، فجملة (فإنه من عمل لآخرته کفاه الله تَبَارَکَ وَتَعَالَى أمر دنیاه) مبنیة على افتراض مسبق هو سؤال السامع عن أمر الدنیا حسب التداولیة.

(واعملوا لآخرتکم) فعل کلامی قوته الإنجازیة النصح والإرشاد، والتصریح بلفظ الجلالة (الله) فاعلا للکفایة غرضه بث الثقة والطمأنینة فی نفوس المخاطبین الأمر الذی ینتج عنه دفع إلى العمل للآخرة.

(وأصلحوا سرائرکم، یصلح الله الکریم علانیتکم) والنصح المستلزم عن فعل الأمر فعل کلامی ومقصد تداولی سبقت إلیه البلاغةُ العربیة بقرون، ویتوجه النصح هذه المرة عن طریق الأمر التوجیهی إلى ما هو أعمق من العمل، وهو ما قر فی السریرة ولم یطلع علیه أحد، وهو أولى بالإصلاح، فقد یزین الشخص ما یظهر للناس، ویضمر السوء، فصلاح الباطن أولى من صلاح الظاهر، فإذا صلحت السریرة تبعها تلقائیا صلاح العلانیة، ولا یجد فیه عناء، أما من ینمق ویزین العلن، فإنه یلاقی شدید العناء لأنه مکلِّفٌ نفسا ضد طبعها، فینبغی أن تبدأ من الجذور حتى تصلح الغصون.

ویلاحظ أنه ربط بینهما عن طریق الأمر وجوابه مقابلا بینهما مع التعبیر بالجمع (سرائر) فی الجانب الأول، والمفرد (علانیة) فی الجانب الثانی، فمثل الجمع إیحاء بضرورة الشمول لتصلح السریرة فی الأمور کلها، فدخائل النفوس کثیرة.

وشکل التقابل بین (الدنیا) و(الآخرة) وبین (السرائر) و(العلانیة) وسیلة من وسائل ربط النص واتساقه "فإن العلاقة النسقیة التی تحکم هذه الأزواج فی خطابٍ ما هی علاقة التعارض"([42]) 

       ویستخدم حجاج السلطة الدینیة بإسناد الفعل (یصلح) إلى لفظ الجلالة (الله) ولمزید من الثقة فی تحقیق الوعد یتبع بوصف (الکریم) إذن لا مجال لأن یشک المخاطب فی تحقق الوعد الذی جاء فی صورة جواب الأمر إیذانا بفوریة حدوثه، فور حدوث الاستقامة الداخلیة.

       ویشکل جناس الاشتقاق بین الأمر (أصلحوا) وجوابه (یصلح) حجة قویة على مجانسة الجزاء للفعل، فله فائدة حجاجیة تضاف إلى فائدته الموسیقیة.

       ولما کان أحسن الناس عملا من جعل موته نصب عینیه، فإنه یعظهم بالإکثار من ذکره وحسن الاستعداد لما بعده (وأکثروا ذکرَ الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ینزل بکم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا یذکر من آبائه فیما بینه وبین آدم علیه السلام أبًا حیًّا لمعرق فی الموت) وکان القوم قد فرغوا من دفن سلیمان بن عبد الملک، ورأوا کیف باغته الموت إذ کان غارقا فی اللذات والمطاعم والمشارب حتى أصابته تخمة الموت، فالکلام مرتبط بالسیاق الحالی.

وقوله (وأحسنوا الاستعداد) مبنی على افتراض مسبق هو إهمال الناس له.

       وتعد سلطة المتکلم عاملا مهما لنجاح الأفعال الکلامیة (اعملوا.. وأصلحوا .. وأکثروا .. وأحسنوا) التی قوتها الإنجازیة النصح والوعظ والإرشاد، یضاف إلى السلطة صورته التی لا یخالف باطنها ظاهرها.

       ویأتی الحجاج بالصورة فی قوله (فإنه هادم اللذات) إذ یصور الموت بصورة شخص یمسک بمعول یعمله فی اللذات لهدمها، هذه صورة شخصت الموت وأبانت عن قوته من جهة، وجسدت اللذات من جهة أخرى على سبیل الاستعارة المکنیة، إنها حجة تقنع المتلقی بالعمل لما بعد الموت حیث تؤکد فی نفسه قوته التی یصنع بها النهایة. ففی حجاجیة الصورة البلاغة سابقة، والتداولیة تتبعها ظلًّا لها.

وقد أشار إلى ذلک عبد القاهر إذ یقول "اعلمْ أنَّ سبیلک أوّلاً أن تعلم أنْ لیستِ المزیّةُ التی تُثبتُها لهذه الأجناس [الکنایة والاستعارة والتمثیل] على الکلام المتروک على ظاهرِه والمبالغةُ التی تدَّعی لها فی أنفسِ المعانی التی یقصدُ المتکلمُ إلیها بخبرِه ولکنّها فی طریق إثباتِه لها وتقریرِه إیّاها. تفسیرُ هذا أنْ لیس المعنى إذا قلنا: إن الکنایَة أبلغُ منَ التَّصریح، أنّک لمّا کنیتَ عن المعنى زدتَ فی ذاته بل المعنى أنّک زدتَ فی إثباتهِ فجعلتَه أبلغَ وآکد وأشدَّ. فلیستِ المزیّةُ فی قولهم: (جمُّ الرماد) أنّهُ دلَّ على قِرًى أکثرَ بل المعنى أنک أثبتَّ له القِرى الکثیرَ من وجهٍ هو أبلغُ، وأوجبْتَهُ إیجاباً هو أشدُّ وادَّعیته دعْوى أنتَ بها أنطقُ وبصحَّتها أوثق. وکذلک لیست المزیّةُ التی تراها لقولک: " رأیتُ أسداً " على قولک: رأیتُ رجلاً لا یتمیَّزُ منَ الأسد فی شجاعته وجُرأته، أنّک قد أفدتَ بالأول زیادةً فی مُساواته الأسدَ بل أنَّک أفدتَ تأکیداً وتشدیداً وقوّة فی إثباتک له هذه المساواةَ وفی تقریرِک لها. فلیس تأثیرُ الاستعارةِ إذاً فی ذاتِ المعنى وحقیقتِه بل فی إیجابهِ والحکمِ به، وهکذا قیاسُ التّمثیل ترى المزیَّةَ أبداً فی ذلک تقعُ فی طریقِ إثباتِ المعنى دون المعنى نفسه. فإِذا سمعْتَهم یقولون: إنَّ من شأنِ هذه الأجناسِ أن تُکسِبَ المعانی نُبلاً وفضلاً وتوجِبَ لها شَرفاً وأن تفخمَها فی نفوسِ السّامعین وترفَعَ أقدارَها عند المُخاطَبینَ فإِنّهم لا یُریدون الشَّجاعةَ والقِرى وأشباهَ ذلک من مَعانی الکلِم المُفردةِ وإنّما یَعْنون إثباتَ معانی هذه الکلِم لمَنْ تثبتُ له ویُخبَر بها عنه.." (([43] وإثبات المعانی وتقریرها وإیجابها مآله إذعان السامعة الذی هو مبتغَى الحجاج.

وانظر إلى تعریفه (اللذات) بـ(أل) الجنسیة لیستوعبها جمیعا، ولا یبقی على شیء من جنسها.

       وتراه یوظف التأکید کآلیة لغویة من آلیات الحجاج فی قوله (إن من لا یذکر … لمعرق فی الموت) على الرغم من أن الناس جمیعا لا ینکرون الموت، لکنهم نزلوا منزلة المنکرین؛ لما بدا علیهم من علامات الإنکار، حیث الإقبال على الدنیا ونعیمها، والغفلة عن الاستعداد للموت وما بعده.

       إن البلاغة قد سبقت التداولیة إلى التأکید ومقامات استعماله الحقیقیة والحکمیة، وقدرته على إقناع المتردد والمنکر، ففی هذا الصدد لم تأتِ التداولیة بجدید، حیث یعد التأکید من تقریریات سیرل. 

وقد عبر بالاسم الموصول (من) لیفید العموم، فالحکم عام للبشریة جمعاء، ثم أتى بصلته فعلا مضارعا؛ لیفید التجدد الاستمراری، إذ عدم ذکر أب حی بین الحی وآدم أمر متجدد مستمر.

 (وإن هذه الأمة لم تختلف فی ربها عَزَّ وَجَلَّ، ولا فی نبیها صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ، ولا فی کتابها، وإنما اختلفوا فی الدینار والدرهم، وإنی والله لا أعطی أحدًا باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا، إنی لست بخازن، ولکنی أضع حیث أمرت) یبین فی هذه الفقرة السبب الذی جر على الأمة داء الاختلاف والتفرق، وکان مدخل الفتن التی ذاقت ویلاتها من صراع دموی وتحزب وتفرق للکلمة وشق لوحدة الصف، إنه الدینار والدرهم.

فالأمة لا خلاف بینها فی ربها المعبود ولا نبیها المتبع، ولا کتابها المهتدى به، فما أهون وأحقر ما اختلفت فیه! الدینار والدرهم طلبا للدنیا وتکالبا علیها؛ لذا یبین للمخاطبین سیاسته فی العطاء (وإنی والله لا أعطی أحدًا باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا) إنه یعرف دخائل النفوس، وما یکون من الناس من إقبال على الحکام طمعا فی عطایاهم فأراد أن یسد هذا الباب على المخاطبین ویبدأهم به من أول الأمر، فبنى خطابه على ما یعتمل فی الصدور؛ لیطابق حال المخاطب، إذن کان للمخاطبین دور فی تشکیل الخطاب، هذا ما تقول به التداولیة، وقد قالته البلاغة العربیة منذ القدم، قال الجاحظ "ومدار الأمر على إفهام کل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل علیهم على أقدار منازلهم" ([44]) .

وقد أکد کلامه بـ(إن) و(القسم) وتقدیم المسند إلیه على الخبر الفعلی؛ لیقنع المخاطب بصرامته وحزمه فی هذا الشأن، فهو لن یعطی إلا من یستحق، لن یعطی باطلا ولن یمنع حقا، والتأکید آلیة من آلیات الحجاج، هدفها التأثیر والإقناع.

       والتقابل بین الجملتین جاء لیغنی السامع عن أن یسأل: ماذا إذا کان لأحد حق؟ فجاءت الجملة الثانیة موصولة بالأولى؛ لتتضح الصورة أمام المخاطب کاملة بطرفیها (لا إعطاء بالباطل ولا منع لحق) وقد شکل التقابل آلیة بلاغیة للحجاج، تقنع المخاطب بإقامة العدل على المستویین: الإعطاء والمنع، فجاءت التداولیة مترتبة على البلاغة فی هذا الموضع، وهکذا "یقوم البدیع ...بالمساهمة فی بناء نظریة للحجاج ، إذ تضطلع کل وسیلة بوظیفة حجاجیة ، وکل وسائله تؤدی وظیفة تقویة المعنى وتوضیحه ، وحاجة الحجاج للبدیع أن المعنى المقنع یحتاج لشیء من الجمال والتوشیة ؛لیقع موقعا حسنا على نفسیة المتلقی ....،فالبدیع یعین على تأدیة الکلام بشیء من الجمال ؛ لیکون مقنعا من جهتین : جهة القوة ، وجهة المتعة واللذة " ([45]) إذن التقابل البدیعی جاء تلبیة لحال المخاطب، وأدَّى دورًا فی الحجاج، فهل للتداولیة أن تستغنی عن البلاغة؟

ویقرر غرضه ببیان أن الأمر لیس له، فیقول (إنی لست بخازن، ولکنی أضع حیث أمرت) أی لیس لی مطلق التصرف، فأعطی وأمنع برغبتی، إنما أنا مأمور مؤتمن على المال، فلا أضعه إلا حیث أمرنی الله تعالى، والجملة مؤکدة ب(إن) و(الباء الزائدة) لتقطع أطماع الطامعین، وتقنع بأن لا عطاء إلا عن استحقاق.

        وفعل الوعد (أضع) من الأفعال الکلامیة الالتزامیة أو من "أسرة الوعدیات من الأسر الخمس التی صنفها (أوستین) للأعمال التی تنجز بواسطة اللغة" ([46])؛ إذ یلزم نفسه عن قصد وإخلاص بوضع المال موضعه الذی یرضی الله تعالى، ویمکن عده من الإعلانیات؛ إذ یعلن عن طریق الفعل المضارع المسند إلى ضمیر المتکلم إنهاء توزیع المال اعتباطا دون وجه حق، وبدء سیاسة جدیدة تتوخى العدل.

ویلاحظ أنه یحاج بالسلطة العلیا فی قوله (أمرت) فمعلوم أن الآمر الله -وإن بنی الفعل للمفعول- أی لا لوم علی ولا اعتراض؛ لأنی أنفذ أمر الله تعالى.

فهنا جاء الحجاج ثمرة آلیة بلاغیة هی حذف الفاعل (المسند إلیه) وإقامة المفعول مقامه.

       (أیها الناس: إنه قد کان قبلی ولاة تجترون مودتهم، بأن تدفعوا بذلک ظلمهم عنکم، ألا لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطیعونی ما أطعت الله فیکم، فإذا عصیت الله فلا طاعة لی علیکم) ینادی الناس مرة أخرى، والنداء إنجاز لفعل الإقبال ودلالة على أهمیة الأمر الذی ینادیهم لأجله؛ إذ یلفت إلى ضرورة التنبه لمبدأ عال فی معاملة الحاکم، فإن خوف الناس من بطش الحاکم جعلهم یظهرون مودتهم له وطاعته مهما کان علیه أمره، فهو هنا یبین لهم أن الأمر معه مختلف، لا یسری علیه فی هذا الشأن ما سرى مع من کان قبله من الحکام، فهو لا یکلف الناس طاعته إلا فی طاعة الله، أما إذا عصى فلا طاعة له علیهم.

       وإحالته على شخصیات الولاة قبله یضع الأمر فی عین المقارنة بین الماضی والحاضر؛ لیقف المخاطب على حسن صنیعه، وسلامة منهجه، فینعکس هذا على الرعیة فی سلوکهم، وقد کان بالفعل، فاصطبغ الناس بصبغته؛ فقد "کان الناس یلتقون فی زمن الولید فیسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فلما ولی سلیمان -وکان صاحب زواج ونهم- جعل الناس یتساءلون عن الجواری والطعام، فلما ولی عمر بن عبد العزیز کانوا یلتقون یقول الرجل للرجل: ما وردک اللیلة؟ وکم تحفظ من القرآن؟ وما تصوم من الشهر؟" ([47]) 

وانظر إلى انتقائه الفعل فی (تجترون مودتهم) وصیاغته على (افتعل) کیف دل على أنها مودة مجتلبة متکلف لها، فی جذبها مشقة وعناء بغیة دفع الظلم.

والجملة تصف النکرة (ولاة) بغرض التخصیص، وغایتها التداولیة الإیضاح، وهی من الأفعال الکلامیة التقریریة حسب سیرل، ([48]) ولولا النظم أی تعلیق تلک الجملة بالنکرة قبلها لما تحققت تلک الغایة التداولیة، أی أنها ظل للنظم.

       والتأکید بـ(إن) و(ألا) والتکرار فی مادتی (الطاعة) و(المعصیة) وجعلهما فی بؤرة الاهتمام، وتسلیط الضوء علیهما، والتقابل بینهما، وذکر الخاص بعد العام، فبعد أن قال (من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له) أتى بما یخصه (أطیعونی ما أطعت الله فیکم، فإذا عصیت الله فلا طاعة لی علیکم) هذا کله من الآلیات الحجاجیة التی تدفع المخاطبین إلى الاقتناع والتسلیم بأن قصد المتکلم ألا یطلب سلطة لنفسه، ولا تمییزا له على الناس، وأنه ما قبل الخلافة إلا نزولا على رغبتهم، ورجاء تحقیق العدل.

       ویلاحظ أنه عبر بـ(إذا) فی (فإذا عصیت) لتفید أنه لا طاعة له علیهم إذا تیقنوا معصیته، فلا یعصوه بمجرد الظن، أو لأن أحدا أوعز إلیهم بأنه قد عصى، بل لا بد من التثبت، وقد کان بالفعل أن قد أرجف الناس بأنه دفن سلیمان حیا ([49]) فکأنه یلمح إلیه وإلى نحوه.

وقوله (أقول قولی هذا، وأستغفر الله العظیم لی ولکم) یؤذن بانتهاء الخطبة إذ یختمها بالاستغفار بدلالته الاستمراریة المستنبطة من توظیف الفعل المضارع، ویثنی على الله بما هو أهله من وصف العظمة، ویتضامن مع المخاطبین إذ یضمهم إلیه فی الاستغفار، وهذا ما یعرف بالاستراتیجیة التضامنیة[50])) فهو لا یستغفر لنفسه وحسب، وفی هذا دلالة على حرصه على ما ینفعهم، مما یجعلهم یسلمون له مقالید الطاعة والإذعان.

       وهکذا یؤدی استغفاره لهم عمل تأثیر بالقول هو إیجاد الألفة بین المتکلم والمخاطب.

وقد غلبت على الجزء الأول من نص الخطبة الإشاریات الشخصیة الخاصة بالمرسِل؛ حیث ضمائر المتکلم الیاء (إنی [مکررة]، ومنی، وبیعتی) والتاء فی (ابتلیت، وخلعت) على حین انحسر ما یشیر إلى المخاطبین فی الکاف فی (أعناقکم، وأنفسکم) وواو الجماعة فی (اختاروا) لأن الأمر منوط به وهو یرید أن یبرأ منه، ویخلِّص نفسه من تبعاته، فکان طبعیا أن یکثر ما یشیر إلیه.

ولما أصر الناس على اختیاره، وتوجه إلیهم بالوعظ برزت إشاریات المخاطبین، وغلبت على بقیة النص متراوحة بین (کاف الخطاب) و(واو الجماعة) لتشمل من حضر وکل فرد من رعیته فی سائر أقطار المسلمین، فحضور ضمائرهم فی النص أدعى لأن یضع کل شخص فی اعتباره أنه مقصود بالموعظة، وبالتالی یؤثر فیه الخطاب.

أما الإشاریات المکانیة فتمثلت فی قوله (بین یدیه) الذی یجسد معنى الطاعة والتهیؤ لحمایته.

و(المسجد) إشاریة مکانیة إلى الموضع الذی تدار منه شؤون الدولة الإسلامیة؛ لیکون ما یُلقی معلنا للجمیع.

وقوله (حیث أمرت) مکانیة تشیر إلى عدم مجاوزته المکان الذی یستحق أن یوضع فیه المال بأمر من الله تعالى.

والزمانیة هی (بینه وبین آدم) حیث یشیر إلى امتداد الزمن، وقوله (ما أطعت) تشیر إلى قصْر طاعتهم إیاه على مدة دوام طاعته لله.

       هذا، وقد قدم الرجل نفسه منذ البدایة زاهدا فی الخلافة، حیث رفض أن یرکب مراکبها بعد خروجه من قبر سلیمان لما فرغ من دفنه، ورکب بغلته، وأبى مسیر صاحب الشرطة بین یدیه، وقال : إنما أنا رجل من المسلمین، ثم أکد صورة شخصیته من خلال خطابه، إذ خلع بیعته من أعناقهم، فلما أبوا إلا اختیاره وضع نهجه، وزاد فی إیضاح صورته، ذلک الرجل التقی الذی یوصی بتقوى الله، ویحث على العمل للآخرة، والإکثار من ذکر الموت، وینعى على الناس اختلافهم فی الدینار والدرهم، ویسن سنة جدیدة فی العطاء، ویعد ألا یضع المال إلا حیث أمر الله، ویقرر أنه لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق، وأول من یطبق علیه ذلک نفسه، ویحرص على أن ینهی خطابه بما یؤلف بینه وبین مخاطبیه وهو الاستغفار لهم.

        وعلى أثر تلک الخطبة استقرت له الخلافة بعد أن کان بنو عبد الملک ینکرونها علیه فی البدایة، وکادت الصعقة تأخذهم حین سمعوا اسمه فی عهد سلیمان المطوی الذی قرأه علیهم رجاء بن حیوة،[51] لکنه استطاع إقناعهم بقوة بیانه، فقد أثمرت خطبته إذعانهم.   


الخطبة الرابعة: مُنفِّذ لله

وصعد المنبر: فحمد الله، وأثنى علیه، ثم قال:

"أما بعد، أیها الناس، إنه لیس بعد نبیکم -صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ- نبی، ولیس بعد الکتاب الذی أنزل علیه کتاب، فما أحل الله على لسان نبیه فهو حلال إلى یوم القیامة، وما حرم الله على لسان نبیه فهو حرام إلى یوم القیامة، ألا إنی لستُ بقاضٍ، لکنی منفذ لله، ولست بمبتدع، ولکنی متبع، ألا إنه لیس لأحد أن یطاع فی معصیة الله عَزَّ وَجَلَّ، ألا إنی لست بخیرکم، وإنما أنا رجل منکم، غیر أن الله جعلنی أثقلکم حملا، یأیها الناس: إن أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، أقول قولی هذا، وأستغفر الله العظیم لی ولکم". ([52])

یعظ الناس لیحملهم على الاستقامة، فیقدم فی صدر خطبته ما یدل على أنه لم یأتِ بجدید، لم یبتدع شیئا، وإنما یحثهم على فعل الحلال الذی أحله الله على لسان نبیه، وتجنب الحرام الذی حرم على لسان نبیه، أی أنه لا یزید شیئا على هذا، وإنما یذکرهم به.

لن یأتی نبی لهدایتکم، ولن ینزل إلیکم کتاب آخر للعمل بما فیه أی علیکم أن تواظبوا على متابعة نبیکم واستمداد أحکامکم من کتابکم، فلیس بعدهما شیء، فماذا تنتظرون للعمل؟

       والتقابل بین جملتی (فما أحل …، وما حرم…) واضح غرضه الذی هو شمول الأبدیة والدیمومة لحل الحلال وحرمة الحرام جمیعا.

إن الوصل بین الجملتین یعد ملمحا تداولیا روعی فیه حال المخاطب لاقتران النقیضین (الحلال والحرام) فی ذهنه، فلما قال (فما أحل ..) ورد فی خاطره ما حرم، فوصل المرسل الجملة الثانیة (وما حرم ..) بها لاتفاقهما فی الخبریة لفظا ومعنى، ولوجود جامع التضاد بینهما، وینتج عنها استلزام حواری مؤداه: إنی لا أمس حراما ولا حلالا، أی لن أبتدع شیئا، الأمر الذی أکده بالتصریح بعده بقوله (ولکنی منفذ لله).

       وقد کان من قبله من بنی أمیة قد استحلوا الدماء، واستباحوا الحرمات، ونکلوا بآل البیت، فهو ینفی عن نفسه أن یکون على نهجهم، فالحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، ولن یتبع أحدا من أسلافه الأمویین، فإتیانه بالجملتین متصل بالسیاق الاستعمالی تمام الاتصال، فربما ظن المخاطبون أنه یمکن أن ینهج نهج عشیرته الأمویة، وقد رأى الناس وعاینوا ما کان منهم، فی الجملتین إذن ملحظ تداولی.

       ویلاحظ أنه وضع الاسم (الله) موضع الضمیر فی الجملة الثانیة؛ لتربیة المهابة وإدخال الروع فی القلوب فلا یقدم أحد على ارتکاب المحرَّم خشیة المحرِّم -سبحانه- ولم یکتفِ بما ذکر فی الجملة الأولى من بقیة المفردات، بل أعاد ذکرها بالتفصیل؛ لأن الموطن موطن بیان وتأکید.

       وفی قوله (ألا إنی لست بقاضٍ، لکنی منفذ لله، ولست بمبتدع، ولکنی متبع) یفصل الجملة عن سابقتها؛ لأنها مؤکدة لها تأکیدا معنویا، أی لست بقاض بحل ولا حرمة وإنما أنفذ ما قضى الله -تعالى- به، ولما کانت هذه الجملة تقتضی مزیدا من التنبیه بدأها بـ(ألا) الاستفتاحیة التی تقتضی التحقیق والدلالة على أن ما یأتی بعدها مهم، فهذه الجملة هی بؤرة الاهتمام فی الخطاب، وعلیها مدار الخطبة.

نفى عن نفسه أن یکون قاضیا بحل أو حرمة، وأثبت کونه منفذا لله، ونفى الابتداع وأثبت الاتباع.

       ویمکن القول إن قوله (فما أحل الله ..، وما حرم) نتیجة مقدمة لهاتیک الجمل .

وفی هذا الموضع یرسم النص شخصیة المحاج حیث تظهر ضمائر المتکلم المتصلة (التاء) فی (لست) و(الیاء) فی (لکنی) یرسمه شخصا متواضعا دینا غیر جبار ولا متسلط متضامنا مع الناس (إنما أنا رجل منکم) نافیا عن نفسه الخیریة (لست بخیرکم)- والجملة مبنیة على افتراض مسبق هو اعتقاد الناس أفضلیة الخلیفة وتقدیمه على الرعیة- مثیرا الشفقة علیه فی تحمله المسؤولیة جالبا لعون المخاطب له علیها (غیر أن الله جعلنی أثقلکم حملا) وفی الجملة افتراض مسبق هو کون الحکم حملا ثقیلا، وهذه هی نظرة العاقل إلیه، فالحکم مسؤولیة ثقیلة ملقاة على عاتقه، فهو یعتبر أن هذا شیء مسلم به لدى المخاطب غیر أنه أثقل الأحمال على الإطلاق، وهنا یستخدم (أفعل) التفضیل کآلیة لغویة للحجاج.

       وقد استعمل بنیة الطباق بین (مبتدع) و(متبع) وبین (یطاع) و(معصیة) لیتضح النقیض بنقیضه فتبین حلاوة الاتباع والطاعة، وقبح الابتداع والمعصیة.

       کما استعمل القصر بـ(إنما) فی قوله (وإنما أنا رجل منکم) أی أنه ینطلق مما هو معلوم لهم، وفیه قیاس مضمر، فبما أنی واحد منکم فلست بأفضل منکم، ولما قال (غیر أن) أوهم السامع أنه سیأتی بعده بشیء له فیه مزیة علیهم، فیفاجأ السامع بغیر ما یترقب وهو أنه أثقل حملا، وهذه لیست مزیة وإنما عبء ومشقة.

وهذا أسلوب یشبه تأکید الذم بما یشبه المدح یمکن تسمیته تأکید التواضع بما یشبه الفخر.

       وهنا یسند الفعل إلى الله-تعالى- فیحاج بذی السلطان الأعظم -سبحانه- أی أن الأمر لم یکن اختیارا منه، وإنما تکلیف ممن لا یرد له أمر، ولا یُعترَض له على فعل.

       وینادی الناس مرة أخرى (یا أیها الناس) فیثبت هذه المرة (یا) النداء، لأن المنبه علیه هو أرکان الدین التی لا قیام له بدونها، لیس شیء أولى بالتنبیه منها إنه یحثهم على أداء الفرائض، فیحتج بـ(أفعل) التفضیل کآلیة لغویة للحجاج، ویضیف إلیها التأکید (إن أفضل العبادة أداء الفرائض) ویکمن دور (أفعل التفضیل) الحجاجی فی أنه یمکن من ترتیب الأشیاء ترتیبا معینا لیضع المفضَّل فی أعلى درجة([53])، والفعل الکلامی التقریری هنا یحمل الناس على المحافظة على أداء الفرائض واجتناب المحارم فهو لا یرمی بالعبارة إلى الاقتناع فحسب، وإنما یتجاوزه إلى السلوک.

       ثم یختم کعادته باستراتیجیة تضامنیة للخطاب (أقول قولی هذا وأستغفر الله لی ولکم) فهو حریص علیهم لا یستأثر نفسه بالاستغفار، وإنما یضمهم إلیه، وفی هذا ما یجعل المخاطبین یمتثلون أمره، إذ یبدو مصلحا -وهو کذلک- لا یرید لهم إلا الخیر والفلاح.

وقد غلبت الإشاریات الشخصیة إلى المرسِل، حیث کثرت ضمائر المتکلم؛ لأنه یرسم لهم نهجه، فهو یتبع ما جاء فی الکتاب والسنة، لن یبتدع شیئا من عنده، لا یرى لنفسه أفضلیة علیهم، ولفظ (بعد) فی قوله (بعد نبیکم، وبعد الکتاب) وقوله (إلى یوم القیامة) إشاریات زمانیة إلى استحالة أن یحرم حلالا أو یحل حراما.      


الخطبة الخامسة: التذکیر بالبعث

وخطب فقال:

"أیها الناس، إنکم میتون، ثم إنکم مبعوثون، ثم إنکم محاسبون، فلعمری لئن کنتم صادقین لقد قصرتم، ولئن کنتم کاذبین لقد هلکتم. یا أیها الناس، إنه من یقدر له رزق برأس جبل، أو بحضیض أرض یأته، فأجملوا فی الطلب" ([54])

       یذکِّر الناس بالبعث بعد الموت؛ إذ رأى غفلتهم وإقبالهم على الدنیا، لذا نراه حذف (یا) النداء لیصل إلى أسماعهم سریعا علَّه ینقذ شیئا؛ لیرعووا ویعودوا إلى صوابهم ویندموا على تفریطهم.

       وقد ألقى الأخبار الثلاثة مؤکدة بـ(إن) وجعل الجمل اسمیة تنزیلا للعالم بمضمون الخبر المسلِّم به منزلة المنکر، لظهور علامات الإنکار علیه من الانشغال بالدنیا وملذاتها، والتقصیر فی شأن الآخرة.

واستعمال (ثم) أبلغ فی الإنذار والتحذیر من العطف بغیرها، والتأکید من الأفعال الکلامیة التقریریة، وینشأ عن الجمل استلزام حواری مؤداه: انتبهوا، تیقظوا من غفلتکم، أقبلوا على آخرتکم واعملوا لها؛ فالعمل سبیل النجاة.

وتمثل الجمل حججا قد أحسن ترتیبها على السلم الحجاجی صعودا إلى أقواها (إنکم محاسبون) هکذا:


أجملوا فی الطلب

 

 

 

 

 

 

واقتباسه من القرآن فیها یقویها ویهبها الإقناع.

ویُتبِع التأکید تأکیدا بالقسم فی قوله (فلعمری.. هلکتم) وتکثر هنا المؤکدات بغیة إقناع المخاطبین (القسم، واللام الموطئة له، واللام مع قد) ویقابل بین الصدق والکذب ویرتب علیهما حکمًا یُفهم منه أنهم غیر محسنین على أیة حال، فإن کانوا صادقین فهم موسومون بالتقصیر، وإن کانوا کاذبین فقد لحقهم الهلاک، ویُفهم منه حثهم على المبادرة إلى العمل لینتفی التقصیر، وإلى التوبة لیدفعوا عن أنفسهم الهلاک، فهذا ما تستلزمه العبارتان.

     وقد کان الناس یتهافتون على الخلفاء یطلبون العطاء، وکان عمر لا یضع المال إلا فی موضعه وحیث ینبغی له؛ لذا یحثهم على الإجمال فی الطلب (یا أیها ….. الطلب) یکرر النداء لمزید من التنبیه، ویستعمل التأکید بـ(إن) مع أسلوب الشرط الدال على تحقق الجزاء متى تحقق الشرط، أی حتما سیأتیک رزقک قل أو کثر، قرب أو بعد، بأعلى مکان کان أو بأسفل مکان، فلا داعی للإلحاح فی الطلب، والجملة مبنیة على افتراض مسبق هو طلب الناس العطاء والإلحاح علیه.

       ویعبر بالنکرة (رزق) لیفید العموم، ویکنی عن بعده وصعوبة الوصول إلیه، وأنه على الرغم من ذلک یأتی، یکنی بقوله (برأس جبل أو بحضیض أرض) أی مهما بلغ فی البعد علوا أو سفلا، وهنا یستعمل حجاجیة الصورة البیانیة؛ لیمتع ویقنع أی یجمع بین الوظیفة الجمالیة والوظیفة الحجاجیة. والاستلزام الحواری هنا هو إتیان الرزق مهما بعد وصعب مناله، وهو المعنى الکنائی نفسه، إذن الاستلزام الحواری لیس جدیدا، وتعد الجملة من حجاج القیاس على الأَوْلى، فإذا کان ما قسم لکم من رزق فی رأس جبل أو حضیض أرض آتیا، فإن ما لکم من رزق فیما بین یدی آتیکم لا محالة، فلا داعی للإلحاح فی الطلب.

وقد شغلت إشاریات المخاطبین الشخصیة أکبر مساحة من نص الخطبة، حیث کاف الخطاب فی (إنکم،  المکررة ثلاث مرات)، والتاءفی ( کنتم[مرتین]، وقصرتم، وهلکتم) وواو الجماعة فی (أجملوا)، حتى تقرع تلک الضمائر الأسماع فیتنبه الناس من غفلتهم، (ورأس الجبل، وحضیض الأرض) إشاریتان مکانیتان أکدتا حتمیة إتیان الرزق مهما شق الحصول علیه.

       ویفرع على الجملة الشرطیة قوله (فأجملوا فی الطلب) وهذا تماسک دلالی للنص، والأمر غرضه النصح والإرشاد، وهو یمثل قوته الإنجازیة باعتباره فعلا کلامیا توجیهیا.


الخطبة السادسة: التحذیر من الدنیا

وخطب فقال:

"إن الدنیا لیست بدار قرار، دارٌ کتب الله علیها الفناء، وکتب على أهلها منها الظعن، فکم عامر موثق عما قلیل یخرب، وکم مقیم مغتبط عما قلیل یظعن، فأحسنوا رحمکم الله منها الرحلة، بأحسن ما یحضرکم من النقلة، وتزودوا فإن خیر الزاد التقوى.

إنما الدنیا کفیء ظلال قَلَصَ([55]) فذهب، بینا ابن آدم فی الدنیا منافس، وبها قریر عین، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بیوم حتفه، فسلبه آثاره ودیاره ودنیاه، وصیر لقوم آخرین مصانعه ومغناه(([56]، إن الدنیا لا تسر بقدْرِ ما تضر، إنها تسر قلیلا، وتجرّ حزنًا طویلا".([57])

یحذر من الدنیا والاغترار بها، ویحتج بفنائها ورحیل أهلها، فقد فتن بنو أمیة بالدنیا، واستکثروا من نعیمها وانشغلوا بها، فهو یحارب ذاک الداء الذی ساد قبله، وقد أراد أن یعلم الناس أن یکتفوا من الدنیا بما یکون زادًا للآخرة، وألا یرکنوا إلیها.

       وقد افتتح بخبر مؤکد بأکثر من مؤکد تنزیلا للمخاطبین منزلة من ینکر مضمون الخبر؛ لما بدا علیهم من الانغماس فی ملذات الدنیا وشهواتها، ویعد التأکید من الأفعال الکلامیة التقریریة، حیث إن فعل القول هو نفی القرار عن الدنیا (ملفوظ الخبر) ، والقوة المتضمنة فی القول هی التزهید فیها، أما الفعل التأثیری المأمول تحصیله فهو نقل النفس من الانشغال بها إلى الانشغال بالآخرة.

       ثم یستأنف (دار کتب الله علیها الفناء، وکتب على أهلها منها الظعن) فیأتی بجملتین مقررتین لمعنى الجملة الأولى مستعملا الحذف کرابط دلالی، أی: هی دار، لیست هی فقط الفانیة، بل أهلها کذلک، ویلاحظ أنه استعار الظعن للموت والفناء؛ لیلقی فی روع المتلقی معنى الانتقال والأمل فی حیاة باقیة لا یهددها الرحیل ولا الفناء، کما أن الظعن أخف وطأة على المخاطب من الموت والفناء.

وجملة (کتب) صفة لنکرة فهی من تقریریات (سیرل) حیث مهمتها إیضاح حال تلک الدار.

       وللتشبیه دوره بوصفه وسیلة بلاغیة للحجاج؛ إذ یقنع السامع أن الدنیا -على سعتها- ما هی إلا دار یرحل عنها صاحبها عما قلیل، فیهون علیه عدم الاکتراث بها إلا بقدر کونها بلغة إلى الآخرة.

       ویلاحظ التوازی الصوتی فی تکرار صوت (الراء) فی الجملتین الأولى والثانیة وهو یعکس المعنى المقصود من عدم الاستقرار والقلق المنوط بالحیاة الدنیا بما له من صفة التردد، ومنه تکرار الفعل (کتب) الذی یفید معنى الفرض والحتمیة، ففناؤها کائن لا محالة، ورحیل أهلها لا مفر منه، ولهذا تأثیر على المخاطب یفوق کثیرا أن یقال: الدنیا فانیة، وأهلها راحلون.

ثم یقیم الدلیل (فکم عامر… وکم مقیم…) مستعملا ثنائیة التضاد لیدل على التبدل والتحول، فالعامر مآله إلى الخراب، والمقیم مآله إلى السفر.

وتکرار (عما قلیل) یعد من التوازی الصوتی الذی له دور فی الإقناع بسرعة التحول، بما فیه من الإلحاح على الفکرة، فلن یطول المکث، وتبدل الأحوال سنة کونیة.

       وقد استعمل الحذف کآلیة لغویة للحجاج؛ إذ التقدیر: کم منزل عامر موثق، وکم شخص مقیم مغتبط، ثم جاء بمقابل عامر (یخرب) ومقابل مقیم (یظعن) لیستتبع المخاطبون مقابلی (موثق، ومغتبط) فیکونا الحزن والتشرد، فحین یملأ المخاطب هذا الفراغ بنفسه یکون أکثر اقتناعا به من أن یُملى علیه، إنه یرید أن یلجئه إلى ما یرید من الزهد فی الدنیا الفانیة والعمل للباقیة.

       ویعد التقابل من التوازی المعجمی الذی یؤدی فائدة مزدوجة: حیث إنتاج الدلالة من ناحیة، وتقسیم الکلام إلى وحدات متناظرة من ناحیة أخرى، ویؤدی بعدا تداولیا، حیث یقنع المخاطب بذلک التحول للدنیا إلى الخراب والتشرد والظعن والحزن، فیختار الباقیة.

       وفی الجملتین توازٍ نحوی حیث بنیتا بناء واحدا یکون له تأثیره حین یطرق السمع؛ لیفید اتحاد الترکیب فیهما المبادرة إلى اتحاد المآلین: مآل الدیار، ومآل الأشخاص.

       ویحنو علیهم بنصحه فیقول (فأحسنوا -رحمکم الله- منها الرحلة) والأمر هنا من الأفعال الکلامیة التی تحمل قوة إنجازیة هی النصح والإرشاد، تدفع إلى الامتثال، وقد ضمن الجملة الاستمالة بالدعاء (رحمکم الله) معترضا بین الفعل ومتعلقه؛ لیؤکد للمخاطبین تضامنه معهم وحرصه علیهم، فالاعتراض له وظیفة تواصلیة أی تداولیة، حیث التأثیر فی المتلقی واستدراجه إلى الاقتناع بلطف الاستمالة، وقد فصلت البلاغة العربیة -قبل التداولیة- أغراض الاعتراض ومقاصده. ([58])

       ویبین عما یرتحلون به بقوله (بأحسن ما یحضرکم من النقلة، وتزودوا فإن خیر الزاد التقوى) أی انتقوا أجود ما تنتقلون به، وأفضل ما لدیکم اتخذوه زادا للعالم الآخر.

یستخدم (أفعل) التفضیل آلیة لغویة للإقناع بهول الیوم الآخر وحاجته إلى الاستعداد بأفضل ما یمکن الاستعداد به، ویضیفه إلى الاسم الموصول (ما) الذی یفید العموم، أی لتحشدوا کل ما یحضرکم ولتنتقوا أجوده، وفی هذا التعبیر تجسید للأعمال وعرض لها فی صورة مادیة محسوسة على سبیل الاستعارة المکنیة. وقد استقر فی الأذهان ما للحس من تأکد فی الإدراک، إذ النفس للحس أقرب، مما جعل عرضه الأعمال فی صورته أکثر تأثیرا فی نفوس المخاطبین.

ثم یحتج بالشاهد إذ یقتبس من القرآن الکریم فی قوله (وتزودوا فإن خیر الزاد التقوى) بما له من سلطة دینیة علیا، وما یمثله من خلفیة معرفیة مشترکة بینه وبین جمهوره المخاطب، فهو ینطلق من مبدأ مسلم به لدیهم ویحتج به على ما یطلب منهم من إحسان الرحلة من الدنیا بأفضل ما یستطیعون من أعمال.

هنا وظفت بلاغة الاقتباس لغرض تداولی، هو استمالة السامعین، وجعلهم یذعنون له، ودفعهم إلى امتثال الأمر والعمل به، وعلیه جاءت التداولیة هنا ظلًّا للبلاغة.

       وفی قوله (إنما الدنیا کفیء ظلال قَلَصَ فذهب) یشبه الدنیا بفیء الظلال دلالة على زوالها وسرعة ذهابها وفنائها؛ فإن ما یُنعَم به من ظل فیه سرعان ما ینقبض ویذهب، واستخدم القصر بـ(إنما) فحصر الدنیا فی کونها فیء ظلال، وکأن لا صفة لها ولا حقیقة إلا هذه، نافیا عنها کل ما عدا کونها کالفیء، وقد عطف الفعل (ذهب) بالفاء المفیدة للترتیب والتعقیب دلالة على سرعة ذهاب الفیء إثر انقباضه دون ما مهلة، والاستلزام الحواری للصورة التشبیهیة هو سرعة زوال الدنیا وانحسارها کما ینحسر الظل ویزول، وما کان لیوجد ذلک الاستلزام لولا البلاغة المتمثلة هنا فی التشبیه.

       والتشبیه من الآلیات البلاغیة التی توظف للإقناع بما له من وظیفة حجاجیة، وأخرى انفعالیة نفسیة، وقد سبق الإمامُ عبد القاهر التداولیین إلى حجاجیة التشبیه بقوله "والتشبیه قیاس والقیاس یجری فیما تعیه القلوب وتدرکه العقول، وتستفتى فیه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان" ([59])

       وقد نزل کون الدنیا کفیء ظلال منزلة ما هو معلوم لکل أحد باستخدامه (إنما) وجاءت الجملة معللة لما قبلها، وهذا من أحسن مواقع (إنما)، وکأنه قیل: لماذا نستعد للرحلة؟ لذا جاءت الجملة مفصولة عما قبلها، وفی الفصل مراعاة لما قد یدور فی خلد السامع من أسئلة وإغناء له عن أن یسأل، فهو عنصر من عناصر السیاق یتدخل فی تشکیل الخطاب، واعتبار حال السامع من مقتضیات التداولیة، وقد سبقت البلاغة العربیة إلى الاعتداد بالسامع وعدته من عناصر المقام التی تدعو المتکلم إلى اعتبار خصوصیة ما فی کلامه لیطابق حاله.([60]) وقد کان للبلاغیین العرب قصب السبق فی ربط المقال بالمقام، یقول تمام حسان "کان البلاغیون عند اعترافهم بفکرة المقام متقدمین ألف سنة - تقریبا- عن زمانهم؛ لأن الاعتراف بفکرتی المقام والمقال باعتبارهما أساسین متمیزین من أسس تحلیل المعنى، یعتبر الآن فی الغرب من الکشوف التی جاءت نتیجة لمغامرات العقل المعاصر ﰲ دراسة اللغة" ([61])

        وتقریرًا لسرعة زوال الدنیا یتبع بقوله (بینا ابن آدم فی الدنیا منافس، وبها قریر عین، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بیوم حتفه، فسلبه آثاره ودیاره ودنیاه، وصیر لقوم آخرین مصانعه ومغناه) بینما الإنسان ینافس فی الدنیا فرحا بها یفاجئه الموت فیُنهی کل ما کان، وهنا یضع الظاهر (الدنیا) فی موضع الضمیر لمزید من التحذیر منها ومن الاغترار بها والانغماس فیها، وتقریرا وتمکینا للمعنى فی أذهان السامعین.

       وهنا یلتفت من ضمیر الخطاب فیما سبق (یحضرکم) إلى التعبیر بالاسم الظاهر (ابن آدم) الذی یعدل ضمیر الغائب تحاشیا لمواجهة المخاطب بما یکره، وینفر منه من أمر الموت وتلطفا، وهنا یلعب السامع دورا مهما جعل المتکلم یعدل عن ضمیر المخاطب إلى الاسم الظاهر.

إذن لاحظ السیاق الاستعمالی إذ هو أمام مخاطب یهوله ویفزعه الموت، فعدل عن خطابه مباشرة إلى الحدیث عن غائب، وتتابعت بعد الاسم الظاهر ضمائر الغائب فی (دعاه، وقدره، ورماه، وحتفه، … إلخ)

       وتقدیم الجار والمجرور(فی الدنیا ، بها) یشکل دلالة الحرص علیها وشدة التعلق بها، مما یزید من هول المفاجأة فی سلبها، وهو ما یأتی بعد (إذ) فی قوله (إذ دعاه… ) والإجابة حتمیة إذ الداعی لا ترد دعوته؛ لذا عرف المسند إلیه (الله) بالعلمیة إیقاعا للخشیة والرهبة والجلال فی نفس السامع، فلیس أمامه إلا الإذعان لدعوة من یقول (کن) فیکون.

وهذا حجاج بذی السلطان الأعظم -سبحانه- فهو یسند فعل الدعوة إلى السلطة العلیا التی یذعن لها جمیع المخاطبین.

       وهذا أبلغ وأقوى تأثیرا -بالطبع- فی السامعین من إسناد الفعل إلى ملک الموت، وأبلغ من أن یقول (إذ جاءه موته) لأن حجته أقوى.

       وانظر إلى التعبیر بـ(الرمی) فی (ورماه بیوم حتفه) إنه یحمل معنى القوة وإصابة الغرض، فهی رمیة تصیب الغرض لا مهرب منها ولا نجاء، والحجر المرمی به هنا هو (یوم الحتف) فیالها من استعارة جاءت متآزرة مع السیاق، متآخیة مع مقصد المتکلم، مناسبة لحال السامع.

       لقد عرضت الاستعارة (یوم الحتف) فی صورة الحجر المسدد الرمیة أو السهم النافذ، وهی صورة من المشترک المعرفی بین المتکلم والمخاطب؛ إذ هی منتزعة من البیئة العربیة وقد تواضع علیها جمیع أهل هذا اللسان؛ لذا یکون لها تأثیرها المزدوج على المخاطبین حجاجیا، وانفعالیا نفسیا.

"وتکمن حجاجیة الاستعارة فی التغییر الذی تحدثه فی الموقف الفکری والعاطفی للمتلقی، فهی لا تسمح للمتلقی بمشارکة المتکلم فی الفکرة أو الدعوى التی یدعیها فقط، بل هی تدفعه إلى أن یشارکه انفعاله وإحساسه" [62]وعلیه یشعر المخاطبون بخطورة الموقف وهول الیوم وتنفعل به نفوسهم، فیتنبهون ویعملون لما بعده.

       وسریعا سریعا یترتب على یوم الحتف سلب الآثار والدیار … ، لذا عطف بالفاء التی تفید أن معطوفها (السلب) قد کان دون مهلة، وعطف (دنیاه) على ما قبلها (آثاره ودیاره) من قبیل الإطناب بعطف العام على الخاص؛ لتأکید التجرد من متعلقات الدنیا وأغراضها جمیعا.

       ویلاحظ التعبیر بالأفعال الماضیة (دعاه، رماه، سلبه، صیر) دلالة على تحقق الوقوع، وهی من الأفعال الکلامیة التقریریة.

       وقال (صیر لقوم آخرین) ولم یقل (لأهله) لیورث الحسرة فی قلبه على ما کان فی یده؛ إذ آل إلى غیره، فلا یشتد حرصه على الدنیا والمال، ویصرف اهتمامه إلى الآخرة.

وقد احتج المرسِل لغرضه بحجج قویة یمکن تدریجها على السلم الحجاجی هکذا:         الدنیا فانیة

      

 

 

 


ویختم بقوله (إن الدنیا لا تسر بقدْرِ ما تضر، إنها تسر قلیلا، وتجرّ حزنًا طویلا) مستخدما التأکید الذی ینم عن قناعته بالحکم، وسعیه إلى إقناع المخاطبین، فیمثل التأکید فعلا کلامیا تقریریا یحمل المخاطبین على الزهد فی الدنیا، وعلى طلب الآخرة، والإعراض عن سرورها القلیل طلبا لسرور یدوم غدا فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر.

وتمثل التأکید فی (إن) المکررة، واسمیة الجملة، وتقدیم المسند إلیه (الدنیا) على الخبر الفعلی (لا تسر)، والجملة مبنیة على افتراض مسبق هو سرور الناس بالدنیا حین تقبل علیهم، وإقبالهم علیها وکأنها تدوم لهم، فهو فی تأکیده وضع فی حسبانه حال جمهوره، وأراد به أن یصحح مسارهم.

       وقد طابق بین (تسر) و(تضر) لیضع المخاطبون السرور فی کفة، والضر فی کفة ویوازنوا بینهما لیتضح لهم زیف الدنیا وخداعها، وقابل (السرور والقلة) بـ(الحزن والطول) إذ الطول یستلزم الکثرة المضادة للقلة.

هذه المقابلة تصب فی غرض المتکلم، وتمثل تذییلا لما سبق، وهو ضرب من الإطناب؛ بغیة تنفیر السامعین من الدنیا، لذا کانت استراتیجیة إقناعیة وظفها المتکلم لغرضه توظیفا سدیدا. 

       وقد اهتم المرسل بالجانب الصوتی الموسیقی، واتخذه وسیلة للتأثیر على جمهوره وإقناعه، إذ یلاحظ استخدامه للتوازی الصوتی (... الرحلة، ... النقلة،.... دنیاه، .... مغناه، .... قلیلا، .... طویلا) حیث السجع الذی اتفقت فیه الکلمات وزنا وتقفیة لتمثل تواترا نغمیا على الآذان، یتردد فیها، فتعی معناها الأذهان ویستقر تأثیرها فی القلب؛ لیدفع صاحبه إلى السلوک المراد تحقیقه من الخطاب، ویضاف إلیه التوازی المعجمی فی (الرحلة، والنقلة) حیث الترادف بین الکلمتین.

کما استخدم التوازی النحوی فی قوله (دعاه الله بقدره، ورماه بیوم حتفه) إذ اعتمد بناء الجملتین على الفعل الماضی متصلا به ضمیر المفعول معلقا به الجار والمجرور، وأظهر الفاعل فی الجملة الأولى (الله) وأضمر فی الثانیة لدلالة الأول علیه، کذا نجد التوازی النحوی فی بناء الجملتین (تسر قلیلا، وتجرّ حزنًا طویلا) منضما إلیه التوازی الصوتی حیث الجناس الناقص والنغمة الواحدة فی مفردات الترکیب.

وقد فطن الإمام عبد القاهر منذ القرن الخامس الهجری إلى أن أهمیة السجع والجناس ترتبط بالمعنى، وموقع کل منهما من العقل فی نحو قوله "إنک لا تستحسن تجانس اللفظتین إلا إذا کان موقع معنییهما من العقل موقعا حمیدا"([63]) وأوْلى شیء من موقعهما من العقل تأثیرهما فی قناعاته، وهو ما ترمی إلیه التداولیة.

ومن الإشاریات الزمانیة الواردة فی الخطبة قوله (عما قلیل) حیث یشیر إلى قصر مدة الحیاة الدنیا وزخرفها وقصر أعمار الناس فیها، ومنها(الدنیا) التی تشیر إلى زمن التنافس المحذر منه، ومنها (یوم الحتف) الذی یشیر إلى حتمیة النهایة. 


الخطبة السابعة: دعوة إلى التکافل

وخطب یوم عید، فحمد الله وأثنى علیه، ثم تلا ثلاث آیات من کتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم قال:

"یا أیها الناس، إنی وجدت هذا القلب لا یعبر عنه إلا اللسان، ولعمری -وإن لعمری منی لحقًّا- لوددت أنه لیس من الناس عبد ابتلی بسعة، إلا نظر قطیعًا من ماله، یجعله فی الفقراء والمساکین، والیتامى والأرامل، بدأت أنا بنفسی وأهل بیتی، ثم کان الناس بعد".

ثم کان آخر کلمة تکلم بها حین نزل: "لولا سنة أحییتُها، أو بدعة أمتُّها، لم أبالِ ألا أبقى فی الدنیا إلا فواقًا".([64])

 بدءُ الخطبة بالحمد والثناء على الله -تعالى- وتلاوة القرآن یرسم صورة للمرسل مقنعة بشخصیته الملتزمة، واتباعه کلام الله؛ مما یدفع المتلقی إلى اتباعه، والتوجه بتوجیهه، فهذا السلوک من المرسِل عمل تداولی یرمی إلى الإقناع بما سیلقى بعد.

        ویأتی النداء (یا أیها الناس) لجذب انتباه الناس فهو فعل کلامی یحمل قوة إنجازیة تتمثل فی تهیئة الناس للتلقی بالإقبال علیه والإصغاء إلیه.

ویلاحظ أنه أراد مزیدا من التنبه والإصغاء لذا أثبت (یا) النداء على غیر المعتاد؛ ذلک أن ما سیأتی بعد من شأن الناس أن یضنوا به، فهم فی حاجة إلى تنبیه أکثر وإصغاء أصغى؛ لیتفهموا قصده.

(إنی وجدت هذا القلب لا یعبر عنه إلا اللسان) الجملة من الأفعال الکلامیة التقریریة بما حوت من تأکید بـ(إن) والقصر بالنفی والاستثناء، أی لا طریق إلى التعبیر عما فی القلب إلا اللسان، ثم یتبع التأکید تأکیدا آخر بالقسم (لعمری) ثم الاعتراض بجملة (وإن لعمری منی لحقا) بین القسم وجوابه، کل هذا التأکید تمهید لما یمکن أن یقابل من الناس بالإنکار، وهو قوله (لوددت أنه لیس من الناس عبد ابتلی بسعة ...) جعل السعة بلاء لیقنع الناس بالتخفف منها، إذ شبهها بالبلاء ثم حذف المشبه به ورمز إلیه بشیء من لوازمه وهو(ابتلی) على سبیل الاستعارة المکنیة، والاستعارة لها دور فی  تمکین المعنى فی نفس المتلقی قصد التأثیر فیه وتحصیل إقناعه،  ذلک "أنها أدل ضروب المجاز على ماهیة الحجاج"[65])) لم یقل (رزق بسعة) حتى لا تحدث المخاطب نفسه قائلة: کیف أفرط فی رزقی الذی قسمه الله لی؟ أما إذا کانت بلاء هان علیه أن یقتنع بتخفیف ثقله من على کاهله، ویتخلص من جزء منه، بدفعه إلى غیره وهو السلوک الذی یرجوه الخطیب ویدعو إلیه.

       ثم یرسم الأسوة للرعیة بقوله (بدأت أنا ....) ولسان حاله یقول: وما أرید أن أخالفکم فیما أقترح علیکم، بل أنا واحد منکم، أبادر إلى هذا الفعل أولًا أنا وأهل بیتی، إذ الجملة مبنیة على افتراض مسبق لقراءته ما یدور فی خلد الناس من نحو قولهم فی أنفسهم: أیأمرنا وینسى نفسه؟ إذن هو یقنعهم ببدئه بنفسه لیتبعوه، ویعد هذا من أفعال الکلام من فئة (الالتزامیات) إذ یلزم المرسِل نفسه بهذا الفعل عن قصد وإخلاص.

       "ولأن الطلب عبء یحمله المتکلم للسامع فمن الأفضل فی معظم الحالات الاجتماعیة، أن یتحاشى المتکلم العبء المباشر عبر تقدیم طلب غیر مباشر" ([66]) لذا لم یستعمل الأمر المباشر وإنما قال (لوددت) استمالة للناس إلى ما یود ویرغب؛ حتى لا یقابل بالرفض، وقد سبقت البلاغة العربیة إلى هذا ، قال صاحب الإیضاح "ثم الخبر قد یقع موقع الإنشاء: إما للتفاؤل، أو لإظهار الحرص على وقوعه [...] والدعاء بصیغة الماضی من البلیغ یحتمل الوجهین، أو للاحتراز عن صورة الأمر؛ کقول العبد للمولى إذا حوّل عنه وجهه: "ینظر المولى إلی ساعة" أو لحمل المخاطب على المطلوب"[67])) والمرسل هنا یرید حمل المخاطبین على المطلوب بطریقة تحببه إلیهم دون أن یظهر فی صورة الآمر المتسلط، وتعد جملة  (لوددت ...) من الأفعال الکلامیة من فئة التعبیریات، فهو یعبر عن موقفه النفسی من هذا الفعل (أن یجعل العبد جزءا من ماله فی الفقراء والمساکین والیتامى والأرامل) فهو یمیل إلیه ویحبه، وقد توافر فیه شرط الإخلاص.

وقد أحسن الاحتجاج لما یرید هکذا:

    الحجة الأولى: وددت أن یجعل العبد جزءا من ماله فی الفقراء.

     الحجة الثانیة: بدأت بنفسی وأهل بیتی.

لیصل إلى ما یرید: اجعلوا جزءا من أموالکم فی الفقراء …..

وهکذا کان بدؤه بنفسه حجة قویة ترمی إلى إقناع الناس ودفعهم إلى السلوک نفسه.

وحثه الناس على جعل جزء من أموالهم فی الفقراء والمساکین … مبنی على الخلفیة المعرفیة الدینیة المشترکة بین المسلمین، حیث الإحسان إلى هذه الفئات التی تعانی العوز والحاجة مما حث علیه دیننا الحنیف.

ویمکن القول: إن الفعل (بدأت) إنشاء لفعل البدء، والفعل (کان) إنشاء لاقتداء الناس به، على اعتبار أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضی دلالة على تحقق وقوعه.

       وقد وظف المرسل آلیات لغویة وبلاغیة لتحقیق أغراضه التداولیة منها: النداء، والتأکید، والقسم، والقصر، والاستعارة، والتعبیر عن المستقبل بلفظ الماضی، والتقابل بین (سنة أحییتها) و(بدعة أمتها).

وقد شاعت الإشاریات الشخصیة إلى المرسِل، حیث ضمائر المتکلم: البارزة: المنفصلة (أنا) والمتصلة (تاء المتکلم ویاؤه)، والمستترة فی (أبالی، وأبقى) حیث یتحدث عن نفسه ویطبق ما یرید من المخاطبین علیه؛ لیقدم لهم القدوة، فالسیاق هو الذی اقتضى تلک الضمائر.

وکلمة (بعد) تشیر إلى زمان تتابع الناس فی الفعل بعد رؤیته یطبق على نفسه وأهل بیته، أما قوله (فواقا) فهو إشاریة زمانیة إلى قصر المدة التی یقنع بها للتعمیر فی الدنیا.

وارتسمت شخصیة المرسل من خلال الخطاب-علاوة على الصورة التی یعرفونها له من قبل- فی صورة مقنعة من خلال البدء بالحمد والثناء على الله وتلاوة آیات من القرآن، الأمر الذی أبرزه ذلک الملتزم بمنهج الله الذی یرجو رضاه ویستمد هدیه من کتابه، وبإظهاره تضامنه مع الناس، فهو لیس حاکما متسلطا یستغل نفوذه، وإنما هو واحد منهم یبدأ بنفسه، ویرجو الخیر لعامتهم.


الخطبة الثامنة: الإمام الظالم عاصٍ لا الهارب منه

وخطب فقال:

"أما بعد: أیها الناس، فلا یطولن علیکم الأمد، ولا یبعدن عنکم یوم القیامة، فإن من زافت ([68])

 به منیته، فقد قامت قیامته، لا یَسْتَعْتِبُ من سَیِّءٍ، ولا یزید فی حَسَن. ألا لا سلامة لامرئ فی خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق فی معصیة الله، ألا وإنکم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصیًا، ألا وإن أولاهما بالمعصیة الإمام الظالم، ألا وإنی أعالج أمرًا لا یعین علیه إلا الله، قد فنی علیه الکبیر، وکبر علیه الصغیر، وفصُح علیه الأعجمیّ، وهاجر علیه الأعرابی، حتى حسبوه دینًا([69])، لا یرون الحق غیره". ثم قال: "إنه لحبیب إلیّ أن أوفر أموالکم وأعراضکم إلا بحقها، ولا قوة إلا بالله".([70])

     للإنشاء أثره فی جذب انتباه المتلقی واستقطاب حواسه، لذا أتبع النداء النهی المؤکد فی (لا یطولن، لا یبعدن) لغرض التحذیر؛ إذ یحذرهم من أن یطول علیهم أمد اتخاذ الدنیا لهوا، أو یعدوا یوم القیامة بعیدا، والفعل الکلامی هنا قوته تتمثل فی التأثیر فی اعتقادهم؛ إذ یبغی المرسل عدولهم عن اعتقاد طول الأمد، وبعد القیامة إلى قصر العمر، وقرب الجزاء على العمل.

وقد وصل بین الجملتین للتوسط بین الکمالین، فقد اتفقتا فی الإنشائیة، وبینهما جامع قوی؛ إذ یرمیان إلى غرض واحد، کما حسن الوصل اتفاقهما فی الصیغة (لا والفعل المضارع المؤکد بنون التوکید الثقیلة).

       ویعلل النهی بقوله ( فإن من زافت به منیته، فقد قامت قیامته) فیصمم استعارة تؤکد قرب المنیة؛ إذ شبهها بالحمامة إذا نشرت جناحیها وذنبها وسحبتها على الأرض بجامع الدنو، ثم حذف المشبه به ورمز إلیه بشیء من لوازمه وهو (زافت) وفیها تجسید للمنیة بغیة تحقیق قربها کما تتحقق مما هو مادی معاین، وقد جاءت الاستعارة دالة على المعنى مجسدة لما یمر به الإنسان من مرح فی الحیاة وفرحة بها کما تحلق الحمامة فی الجو، واقتراب المنیة یجسده هبوط الحمامة على الأرض ساحبة جناحیها وذیلها، ففی الصورة انتقال من حال الفرح والحرکة إلى حال السکون والرکود "وقد احتلت الاستعارة فی البلاغة المعاصرة مکان الصدارة ؛ لطبیعتها المرنة المقارنة بین قطبیها : المذکور والمغیب ،.....، فکان لها دورها فی التأثیر الممارس عبر النصوص والخطابات ، ومن ثم الدفع إلى أفعال معینة ینشدها المبدعون"([71])  وهو یرید أن یشعر الناس بقرب الأجل، ومن ثم الدفع إلى العمل للآخرة، فالبلاغة هنا سابقة على التداولیة؛ إذ الاستعارة یتبعها تأثیر تداولی.

        ویضع الفعل الماضی (قامت) موضع المستقبل لیدل على تحقق الوقوع، ودل اتحاد الزمن فی الشرط والجواب على الفوریة، وبالتالی لیس لدیه فرصة للتصحیح، فـ(لا یستعتب من سیء، ولا یزید فی حسن) جفت الأقلام ورفعت الصحف، فلتغتنم عمرک قبل أن یکون ذلک، ولتستعتب الآن من سیئاتک، ولتزدد من الحسنات وأنت فی مهل قبل حلول الأجل وانقطاع العمل.

       وقد عقد المناسبة بین الجملتین بالتقابل الذی مثل محسنا بدیعیا من ناحیة، وعنصرا من عناصر تماسک النص من ناحیة ثانیة، وحسن الوصل بین الجملتین من ناحیة ثالثة.

       وللوصل هنا بعد تداولی؛ ذلک أن المخاطب عندما یسمع (لا یستعتب من سیء) فإنه یستدعی عنده ضده وهو الحسن، فالمرسل راعى خطور الضد بالبال عند حضور ضده، فأردف ببیانه تلبیة لحاجة المخاطب قائلا (ولا یزید فی حسن).

(ألا لا سلامة لامرئ فی خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق فی معصیة الله) یستخدم (ألا) الاستفتاحیة الدالة على أهمیة ما یلقى بعدها، وعلى تحقق المرسٍل منه وتأکده، ویأتی بعدها بجملة خبریة (لا سلامة..) فمن ابتغى السلامة فی غیر السنة فقد ضل، أی أن مقصوده: الزموا السنة، إذن غرض الجملة الحث على اتباع السنة؛ فإن فی خلافها الهلکة، وهو ما یعرف فی التداولیة بالاستلزام الحواری، وعرف قبل فی البلاغة بالغرض البلاغی للخبر.

       وتنکیر (مخلوق) لإفادة العموم، أی ولو کان المخلوق ولی الأمر فلا طاعة له علیکم فی معصیة الله، أی لا تطیعونی إذا عصیت، وهو هنا یرسم شخصیة المحاج غیر متسلطة، لا تطلب شیئًا إلا فی حدود طاعة الله، وهذا أحرى لاتباعه، وحمل الناس على تنفیذ نصحه وامتثال أمره.

  وقد تضمن الکلام قیاسا یمکن هیکلته کالتالی:

   لا طاعة لمخلوق فی معصیة الله.

   ولی الأمر مخلوق.

    ن: لا طاعة لولی الأمر فی معصیة الله.

إذن التنکیر البلاغی الذی أفاد العموم فی (مخلوق) هو الذی أدى إلى أن یفهم منه أنه یرید نفسه.

(ألا وإنکم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصیًا، ألا وإن أولاهما بالمعصیة الإمام الظالم) یتحدث عن أمر قد ثبت عند الناس فی حکم الأمویین قبله، ذلک أن یعدوا من هرب من ظلم الإمام عاصیا، وهو یرید أن یصحح لهم هذا الفهم الخطأ، فیقول: إن الإمام الظالم أولى أن یوصف بالمعصیة، وهنا تبرز شجاعته فی الحق فهو لا یخشى قرابته (بنی أمیة) واعتراضهم على هذا الحکم أو نفورهم منه.

       وفی هذا تصریح لمن خرج هاربا من ظلم مَنْ قبله من الخلفاء بالعودة ولا حرج علیه؛ فقد رفع عنه الظلم، وهذا یستلزم رفع المؤاخذة عنه، إذن فی الکلام نتیجة مضمرة، وهو ما تعده البلاغة العربیة غرضا بلاغیا للخبر.

       ویکرر (ألا) إبقاء على انتباه المخاطب، وحرصا على ألا یتفلت منه؛ لأهمیة الآتی (وإنی أعالج أمرا ... ) بالتنکیر أی أمرا عظیما تصعب معالجته هو أمر الحکم، وقد بنى على افتراض معرفة الناس له، ثم یصفه بـ(لا یعین علیه إلا الله) والجملة التی تقع صفة لنکرة تعد من التقریریات عند (سیرل) ؛ فهی تقرر صعوبة الأمر وتؤکدها، إذن هو لیس فرحا بالخلافة ولا بطرا بها، وإنما قلق یستشعر عظم المسؤولیة الملقاة على عاتقه، ویسأل الله العون علیها.

ویتابع وصف هذا الأمر بقوله ( قد فنی علیه الکبیر، وکبر علیه الصغیر، وفصُح علیه الأعجمیّ، وهاجر علیه الأعرابی) جامعا بین المتقابلات؛ لیوضح مدى التنافس على أمر الخلافة بین الناس، فقد بالغ الناس فی التسابق فی طلبها، کلٌّ یثبت أحقیته، ویرکب الصعاب من أجلها (حتى حسبوه دینا لا یرون الحق غیره) أی فرضا لا بد منه، فقد شبه الخلافة بالدین، ووجه الشبه الالتزام والضرورة من وجهة نظر الحریصین علیها، لذا استخدم فعل الظن (حسب) أی حسبوه دینا وهو لیس کذلک، ثم فسر ذلک بقوله (لا یرون الحق غیره) والجملة مؤکدة بقصر طریقه (النفی والاستثناء) تصور مدى إصرارهم على أن الخلافة حق لهم، فلا حق غیرها یستمیتون فی طلبه.

وقد جاءت نتیجة هذا القیاس مقدَّمة هی قوله (قد فنی علیه الکبیر). ویمکن تمثیل هذا على السلم الحجاجی هکذا:

      أفنوا علیه أنفسهم

 

 

 

 

ثم قال (إنه لحبیب إلیّ أن أوفر أموالکم وأعراضکم إلا بحقها، ولا قوة إلا بالله)

جملة مؤکدة بـ(إن) والاسمیة، و(اللام) المقترنة بالخبر لإقناع المخاطب الذی رأی بأم عینیه تسلط حکام بنی أمیة على الأموال والأعراض، بل الدماء، إنه یرسم لنفسه صورة یرید لها أن تمحو الصورة المرسومة فی الأذهان للحکام الأمویین وتجبها، وتضع أسس حکمه الذی یحافظ فیه على أموال المسلمین وأعراضهم، فلا یُنال شیء منها إلا بحق.

وتقدیم المسند (حبیب) أفاد التشویق إلى معرفة المسند إلیه المخبر عنه بهذا الوصف.

وقد اختار بنیة الفعل المضعف العین(أوفر) للمبالغة والتکثیر اللذین یؤکدان حرصه على صون أموال المسلمین وأعراضهم.

        ویختم بقوله (ولا قوة إلا بالله) ولسان حاله یقول: اللهم أمدنی بقوة من عندک؛ لأحافظ على الأموال والأعراض، فالجملة تستلزم الدعاء وطلب العون من الله تعالى.

       وقد کثرت وسائل التأکید فی الخطبة ما بین (نون) التوکید، و(ألا) المکررة أربع مرات، و(إن) المکررة أربعا أیضا؛ لأهمیة موضوعها وحاجته إلى التقریر فی نفوس المخاطبین، والإقناع به.

       ولم یحفل بالسجع إلا فی موضعین حین قاد المعنى إلیه فی (.... الکبیر، .... الصغیر) و(... الأعجمیّ، .... الأعرابیّ) لیس السجع وحسب بل جاءت الجمل متوازنة، متساویة الکلمات؛ لیثبت فی الأذهان کیف کان ولع الناس وشغفهم بهذا الأمر، فقد کان "على وعی تام بوظیفة أخرى [للسجع] هی الوظیفة التذکریة" ([72]) .

       ویتضح حضور المخاطبین فی نص الخطبة من خلال الإشاریات الشخصیة حیث ضمائر الخطاب فی (علیکم، وعنکم، وإنکم، وأموالکم، وأعراضکم) فهم المقصودون بالموعظة ومحور اهتمام الخطیب، أما إشاریات المتکلم فقد تمثلت فی یاء المتکلم فی (إنی، وإلیّ) والضمیر المستتر فی (أعالج، وأوفر) وهی تشیر بمعونة السیاق إلى عظم المعاناة، وثقل العبء، وشدة المجاهدة.

و(الأمد، ویوم القیامة، وقیامته) إشاریات زمانیة إلى قصر المدة، و(الإمام) إشاریة اجتماعیة رسمیة إلى الحاکم أو ولی الأمر تلمح إلى ضرورة أن یکون قدوة للرعیة فی إقامة العدل، لا أن ینالهم ظلمه.


الخطبة التاسعة: التخلص من القطائع وردها إلى بیت المال

وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى علیه، ثم قال:

"أما بعد: فإن هؤلاء القوم قد کانوا أعطونا عطایا، والله ما کان لهم أن یعطوناها، وما کان لنا أن نقبلها، وإن ذلک قد صار إلی، لیس علی فیه دون الله محاسب، ألا وإنی قد رددتها، وبدأت بنفسی وأهل بیتی" اقرأ یا مزاحم -وکان مولاه- وقد جیء قبل ذلک بِسَفَطٍ فیه تلک الکتب، فقرأ مزاحم کتابًا منها، ثم ناوله عمر، وهو قاعد على المنبر وفی یده جَلَم([73])، فجعل یَقُصُهُ، واستأنف مزاحم کتابا آخر، فقرأه، ثم دفعه إلى عمر، فقصه، فما زال حتى نودی بصلاة الظهر.([74])

       ربما ظن الناس حین جیء بسفط الکتب قبل أن یبدأ کلامه، وقبل أن یناوله مزاحم لیقص -ربما ظنوا أن هذه کتب عطایا الخلیفة الجدید للناس وقطائعه التی یقطعهم إیاها، قد انقطع عنهم ثلاث لیال فی کتابتها لیفاجئهم بها -على عادة الناس فی طمعهم فی عطایا الخلفاء- فإذا بتوقعهم یبطل ورجائهم یخیب، إذ یرد قطائعه، وینشأ عن ذلک استلزام حواری، مقتضاه (ردوا قطائعکم) الأمر الذی هال الأمراء وأنکروه إنکارا شدیدا، وغلت له ثائرتهم. 

       إنه یعلم الناس رد الحقوق إلى أصحابها، ویحثهم على الزهد فی الدنیا بطریقة عملیة، فهو بهذا یؤدی عمل تأثیر بالقول، إذ یقول إنه رد العطایا والقطائع التی ورثه إیاها آباؤه؛ لیکون قدوة لغیره من الناس وخاصة أمراء بنی أمیة وکبارهم.

       وقبل أن یصرح بردها جاء بسببه (ما کان لهم أن یعطوناها، وما کان لنا أن نقبلها) فقد کان إعطاؤها وقبولها عن غیر وجه حق، هذا التعبیر (ما کان له أن یفعل) نفی للاستحقاق، وأصل الترکیب: ما کان فلان فاعلا کذا، فلما أرید المبالغة فی النفی عُدل إلى نفی المصدر([75]) ، وهو بهذا یقرأ ما فی نفس المخاطب فیبنی خطابه بناء یغنیه عن أن یسأل عن سبب الرد.

وقوله (وما کان لنا أن نقبلها) یفید الندم، فهو تعبیر عن موقفه النفسی الذی توافر فیه شرط الإخلاص، أی أنه فعل کلامی من فئة التعبیریات، قوته المتضمنة فی القول هی الندم.

       وقد عطفت الجملة على سابقتها مراعاة لحال السامع الذی یمکن أن یعترضه بقوله (لماذا قبلت؟) فبادر بالوصل؛ لیقول لم أکن على حق فی قبولها، فی مبادرة للاعتراف بالخطأ السابق سعیا إلى تصحیحه، وفی هذا ملحظ تداولی إذ بنى الخطاب على معرفته بحال السامع.

      وفصلت جملة (لیس علی فیه..) عن سابقتها (وإن ذلک قد صار إلی) لکمال الاتصال؛ فهی مؤکدة لما قبلها فی معنى الانفراد بالأمر والتصرف فیه.

      ویأتی فی أول کلامه بجملة خبریة تقریریة مؤکدة بـ(إن) واسمیة الجملة، و(قد)، وهذا یدل على عمق قناعته بمصدر العطایا وأنها لم تکن من کسبه، واعتنائه بالحکم الذی تضمنته الجملة، وحرصه على تأکیده لجمهور المخاطبین.

وهو بذلک یؤدی عمل تقریر بالقول "والشرط الافتراضی الذی تقوم علیه التقریریات هو امتلاک الأسس القانونیة أو الأخلاقیة التی تؤید صحة محتواها، والفرق بین التوکید والخبر العادی بمعاییر (سیرل) فی درجة الشدة للغرض المتضمن فی القول" (([76] وهو عین ما نصت علیه البلاغة العربیة من منع الشک أو التردد، ودفع الإنکار، والعنایة بالحکم والقناعة به.

وقد عبر بالنکرة (عطایا) لتتآزر مع صیغة الجمع فی الدلالة على الکثرة، ثم یؤکد عدم أحقیة العطاء والقبول بالقسم (والله ما کان ...) وله "غرض تواصلی هو دفع المخاطب إلى الوثوق بکلامه" ([77]) ویتبع بالتعبیر بالمضارع المؤول مع (أن) بالمصدر دون المصدر الصریح (الإعطاء، والقبول) لیستحضر المضارع الصورة فی الأذهان لیقع علیها الإنکار والتقبیح.

       ثم یعلن أنه الآن یملک التصرف فیها لا یحاسبه علیه أحد من البشر، ولا یستطیع أن ینکره علیه، وهذا مقتضى قوله (وإن ذلک قد صار إلی) الذی أکده بقوله (لیس علی فیه دون الله محاسب) مقدما المسند (علی) على المسند إلیه (محاسب) لیفید الاختصاص، ویحترس بقوله (دون الله) معترضا به بین خبر (لیس) واسمها تعظیما لله -تعالى- ودفعا لتوهم المخاطبین انخلاعه من محاسبة الله -تعالى- ومراقبته، وتأتی کلمة (محاسب) نکرة لتفید العموم، أی لا یحاسبه أحد من البشر کائنا من کان، فالأمر موکول إلیه وحده، وهنا یعرض صورة قویة لذات الخطیب ذلک الذی لا یستطیع أن یرد تصرفه أحد، ولیس علیه محاسب إلا الله، فصورة الذات هنا جاءت صدى لنظم الکلام، فالبلاغة هنا سابقة على التداولیة؛ إذ تعاون التقدیم والتنکیر على رسم صورة الذات.

        ثم یعلن ما لدیه من إجراء بشأن العطایا بتلک الجملة القویة (ألا وإنی قد رددتها) المفتتحة بـ(ألا) التی تفید التحقق والتأکید، و(إن) واسمیة الجملة، و(قد) المقترنة بالفعل الماضی المفید تحقق الوقوع.

لقد صاغ الجملة بعنایة فائقة حتى لا یترک فی نفس أحد شیئا، لم یقل (أردها) بالمضارع الدال على الحال، وإنما اختار صیغة الماضی لیدل على تحقق الفعل، لینشأ عن ذلک فعل کلامی (عمل بالقول) هو إنشاء رد العطایا.

       ولیؤکد صدق التزامه أتبع بجملة (وبدأت بنفسی وأهل بیتی) بالماضی -أیضا- المفید تحقق الوقوع؛ لیکون قدوة لغیره من الأمراء والأشراف الذین لدیهم قطائع منحهم إیاها بنو أمیة، وهذا یزید فی إیضاح صورة الذات وصدق الخطیب، وبالتالی یزید فی الإقناع، وتعد الجملة من حجاج القیاس على الأَوْلى، أی لو کان شیء من المحاباة فی تلک العطایا لکان لنفسی ولأهل بیتی، لکن هأنذا بدأت بهما فی ردها.

       وقد تعاون السیاق الحالی والهیئة التی ظهر علیها الخطیب على تأیید السیاق المقالی؛ إذ ظهر الرجل فی ثیاب رخیصة یرتدیها لأول مرة فی حیاته ([78]) ، بعد أن کان فیما سبق قبل عهده بالخلافة حسن الثیاب فخمها عطرها، ثم أید القول بالعمل، إذ جعل مزاحم یقرأ سجلات القطائع کتابا تلو الآخر، ویناوله عمر فیقصه بجلم کان فی یده وهو على المنبر الذی یمثل إشاریة مکانیة لها أهمیتها فی الإعلان وإطلاع الناس على هذا العمل حیث لا یخفى مکانه على أحد؛ لیعرض المعنى على جمهور المخاطبین مرتین: مرة عن طریق القول، وأخرى عن طریق الحرکة أو ما یعرف بلغة الجسد، حیث یعد المجیء بسفط الکتب وقصها على المنبر من البیان بالإشارة الذی یقوی اللفظ ویوضحه، ویقدم دلیلا على صحته، فبعد أن قال (وإنی قد رددتها) أقام الدلیل العملی على ردها؛ لیکون الحجاج أقوى، والإقناع أعمق، لعل غیره ممن أقطعوا قطائع یسلکون سلوکه فی ردها إلى بیت مال المسلمین.

وهو ما أشار إلیه الجاحظ بقوله "نعم العون هی [الإشارة] له [اللفظ]، ونعم الترجمان هی له" ([79])

وقوله (هؤلاء القوم) إشاریة شخصیة اجتماعیة إلى أسلافه من حکام بنی أمیة، فهم أهله وعشیرته الذین یجمعه بهم النسب، ثم توالت الإشاریات إلى ذات المرسِل بضمائر المتکلم؛ إذ یعلمهم رد حقوق المسلمین إلى بیت المال، فلا بد أن یطبق على نفسه أولًا.

قول الراوی: فما زال حتى نودی بصلاة الظهر إشاریة زمانیة إلى طول المدة.

       والخطبة -على قصرها- حاشدة لکثیر من أنواع التأکید:-

1- أما.

2- (إن) المکررة ثلاث مرات.

3- تقدیم المسند إلیه (هؤلاء القوم) على الخبر الفعلی (قد کانوا).

4- القسم.

5- (قد) المقترنة بالفعل الماضی ثلاث مرات.

6-ألا.

فالفعل الکلامی العام للخطبة هو التقریر، تقریر تغیر الحال بوجه عام عما کان علیه فی عهد من کان قبله من خلفاء بنی أمیة، وبوجه خاص فی القطائع التی کانوا أقطعوها الأمراء والأشراف دون وجه حق "فالفعل الکلامی الذی ینجز بواسطة متوالیة من الأفعال الکلامیة یطلق علیه الفعل الشامل" ([80]).


الخطبة العاشرة: الحث على التزود للآخرة

وخطب فقال:

"إن لکل سفر زادًا لا محالة، فتزودوا لسفرکم من الدنیا إلى الآخرة، وکونوا کمن عاین ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرغبوا ورهبوا، ولا یطولن علیکم الأمد، فتقسو قلوبکم، وتنقادوا لعدوکم، فإنه والله ما بسط أمل من لا یدری لعله لا یصبح بعد إمسائه، ولا یمسی بعد إصباحه، وربما کانت بین ذلک خطفات المنایا، فکم رأینا ورأیتم من کان بالدنیا مغترًا، فأصبح فی حبائل خطوبها ومنایاها أسیرًا، وإنما تقرُّ عین من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما یفرح من أمن من أهوال یوم القیامة، فأما من لا یبرأ من کلْم إلا أصابه جارح من ناحیة أخرى، فکیف یفرح؟ أعوذ بالله أن آمرکم بما أنهى عنه نفسی، فتَخْسَرَ صفقَتِی، وتَظْهَرَ عورتی، وتَبْدُوَ مسکنتی، فی یوم یبدو فیه الغنی والفقیر، والموازین منصوبة، والجوارح ناطقة، فلقد عُنِیتُم بأمر لو عُنِیَتْ به النجوم لانکدرت، ولو عنیت به الجبال لذابت، أو الأرض لانفطرت، أما تعلمون أنه لیس بین الجنة والنار منزلة، وأنکم صائرون إلى إحداهما؟ ".([81])

       ینطلق من مبدأ حجاجی مسلم به هو حاجة السفر إلى الزاد، ثم یبنی على استعارة السفر للانتقال من الدنیا إلى الآخرة حاجته إلى الزاد، إذ ینصح بالتزود له، لکن الزاد هنا مختلف عما یعد لأسفار الدنیا، إذ هو العمل الصالح الذی یثقل الموازین فی الآخرة، ویقی من النار، کما یثقل الزاد المتاع فی أسفار الدنیا، ویقی من الهلاک جوعا.

       وقد استخدم القیاس کحجة منطقیة تقنع بالتزود للآخرة ویمکن هیکلته کالتالی:

   لکل سفر زاد.

  الانتقال إلى الآخرة سفر.

  ن: تزودوا للآخرة.

       وقد أضمر المقدمة الثانیة لیصل سریعا إلى قصده وهو النتیجة، ففی الإضمار مبادرة إلى المطلوب، فاتخاذ الزاد للآخرة أولى.

فهنا نرى الأمر (تزودا) فعلا کلامیا یحمل قوة متضمنة فیه هی النصح والإرشاد والعظة الصادقة، وهی ما یسمى فی البلاغة العربیة بالغرض البلاغی للأمر.

       ثم یتبع بما من شأنه أن یزید فی حملهم على التزود والجدیة فیه وهو قوله (وکونوا کمن عاین ما أعد الله له من ثوابه وعقابه) إذ المعاینة ترسخ الصورة فی الأذهان، فتجعل النفس تجد فی فعل ما یجلب ذلک الثواب رغبة فیه، ویدفع العقاب رهبة منه، فالجملة مبنیة على افتراض مسبق وخلفیة معرفیة مشترکة بین المتخاطبین هی کون المعاینة أدل على الیقین، فقد أراد أن یقول: کونوا على یقین من الثواب والعقاب.

        وقد عملت الاستعارة فی (لسفرکم) والتشبیه فی (کونوا کمن عاین) على إقناع المخاطبین بما لهما من وظیفة نفسیة انفعالیة، وأخرى استدلالیة إقناعیة، فمن یعاین لیس کمن یسمع أو یقرأ، فما راء کمن سمع، للمشاهدة عیانا من التأثیر فی النفس والاستقرار فی القلب ما یجعل صاحبهما یقتنع ویسلس قیاده، ویسلک ما یُوجَّه إلیه.

      ویتبع النصح النصح إذ یقول (ولا یطولن علیکم الأمد) أی لا تعدوا الأمد طویلا فتسوفوا بالتوبة وتتراخوا فی العمل؛ لئلا یترتب على طول الأمد قسوة القلب والانقیاد للعدو؛ فقد بین عواقب أن یعتقدوا طول الأمد کحجة للتحذیر منه تزید فی قناعة المخاطبین، ویستخدم التأکید بـ(النون الثقیلة) فی (لا یطولنَّ) کآلیة لغویة للحجاج.

       ولم یقتصر على (قسوة القلب) کعاقبة لطول الأمد المحذر منه، بل أتبع بما هو أخطر منها (الانقیاد للعدو) الذی یفقد الأمة هویتها، ویلغی وجودها؛ لیستشعر الناس خطره، فیحذروا الإحساس بطول الأمد.

       ویلاحظ احتجاجه بحجة جاهزة من کتاب الله -تعالى- یتخذها وسیلة لإقناع المخاطبین، إذ یقتبس من قوله -تعالى- )فَطَالَ عَلَیْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ( الحدید 16.

       والتعبیر بالمضارع (تقسو، وتنقادوا) لتمثل الصورة فی الأذهان وکأنها رأی العیان، صورة القسوة، وصورة الخذلان والخزی والاستسلام للعدو، وفی ذلک تنفیر مما یؤدی إلى الصورتین، وحجة للتعجیل بالتزود للآخرة وعدم التسویف فیه الذی داعیه الإحساس بطول الأمد وبأن فی العمر متسعا للتوبة والعمل والتزود.

      ثم یعلل بقوله (فإنه والله ما بسط أمل من لا یدری لعله لا یصبح بعد إمسائه، ولا یمسی بعد إصباحه، وربما کانت بین ذلک خطفات المنایا) وهو یؤدی عملا تقریریا بالتأکید بـ(إن) والقسم، وبناء الفعل للمجهول کوسیلة لإنکار أن یکون لبسط الأمل فاعل والحال أن صاحبه لا یدری هل سیصبح بعد إمسائه، أو سیمسی بعد إصباحه، ربما تخطفته المنیة فیما بینهما، فماذا یقول لربه؟ أیقول کنت سأعمل بعد حین؟ أو کنت سأتزود بالتقوى لاحقا؟ أو یقول ارجعنی أعمل صالحا؟ إنه لیس شیء إلا الیأس وانقطاع العمل، وفی البناء للمجهول بعد تداولی یتمثل فی نقل الوظیفة المحور من الموضوع الأول وإسنادها إلى غیره ([82]).

       ویستخدم بنیة التقابل بین (لا یصبح ..) و(لا یمسی..) لیفید شمول الخوف والقلق له على أیة حال، لا یخلو منه وقت من الأوقات، ویعد التقابل آلیة بلاغیة من آلیات الحجاج، فالبلاغة سابقة فی هذا الصدد على التداولیة.

       ثم یؤید بالدلیل الواقعی (فکم رأینا ورأیتم من کان بالدنیا مغترًا، فأصبح فی حبائل خطوبها ومنایاها أسیرًا) وهنا یحیل إلى المشترک المعرفی بین البشریة جمعاء من إدراک الموت لکل حی مهما عمّر واغتر وتجبّر، لکنه یصوغ الجملة صیاغة تخفق لها القلوب؛ إذ یصور تبدل الحال من حریة واغترار إلى أسر وموت، من دنیا الرغد إلى شدة الأحداث وهول الخطوب، فقد شبه الخطوب بالحبائل تشبیها مؤکدا أضیف فیه المشبه به إلى المشبه، واشتداد الخطوب وإتیان المنیة علیه أسر لا یستطیع منه فکاکا، ناهیک عما توحی به کلمة الأسر مما یتعاقب على المرء من ذل وهوان.

العاقل لا یغتر بدنیاه، ویضع نصب عینیه أنها مهما ت.

0 زینت فهی إلى زوال، فلا یکون منه فیها إلا ما یرضی الواحد الدیان. 

ویمکن القول: إن الصورة بمجملها استعارة تمثیلیة خیلت الإنسان موثقا بالمصائد قد أحکمت حبالُها القبضَ علیه من کل جانب مقودا أسیرا إلى الموت، فما أذلها من حال، وما أهونه من إنسان.

وقد حوت داخلها تشبیه الخطوب بالحبائل(المصاید)، وتشبیه الإنسان فی مآله إلى الموت بالأسیر لا یملک من أمر نفسه شیئا وقد آل إلى الذل والهوان.

       هذه الصورة کفیلة بأن تجعل المخاطبین یقتنعون بنبذ متع الدنیا ونعیمها، ویسلکون طریق الآخرة.

      ویذیل قوله (فإنه والله ما بسط أمل .. ) بقوله (وإنما تقر عین من وثق بالنجاة ...القیامة) فقد أکد به مضمون ما سبق من عدم بسط الأمل إذا کان الشخص لا یدری هل سیصبح بعد إمسائه أو العکس، فإنه قد تدرکه المنیة فیما بینهما، فهو أیضا لا تقر عینه لأنه لا یثق بالنجاة من عذاب الله، ولا یأمن أهوال القیامة، فمن کان فی الدنیا هنیئا قریر العین فهو غافل، لا یدری حقیقتها ولا یفهم کنهها.

وینشأ من الجملتین استلزام حواری مؤداه أن المخاطبین لا تقر أعینهم، ولا یأمنون أهوال القیامة، وهذا إیعاز بالجد فی التزود للآخرة والاستعداد لها.

والجملتان من تقریریات (سیرل) حیث التأکید بالقصر، وحیث إن صلة الموصول (من) فیهما لها غایة تداولیة هی إیضاح إبهام الموصول[83])) وتقریر الغرض المسوق له الکلام، وقد نشأ التقریر عن القصر، وعن تعریف المسند إلیه بالموصولیة، فالتداولیة ظل البلاغة الذی یتبعها.

وقوله (فأما من لا یبرأ من کلْم إلا أصابه جارح من ناحیة أخرى، فکیف یفرح؟) یقرر فکرة أن الإنسان لیس بمأمن، فهو لا یکاد یشفى من جرح حتى یصاب بآخر؛ فبعید أن یطمئن فضلا عن أن یفرح.

والاستفهام یحمل قوة متضمنة فی القول؛ إذ یؤدی عمل التعجب والإنکار، والعمل اللغوی (الفعل الکلامی) هنا هو الغرض البلاغی للاستفهام، فلا فرق هنا بین التداولیة والبلاغة، وإذا کان ذلک موجودا فی البلاغة فما داعی التغریب؟

       وجملة (أعوذ بالله أن آمرکم …) تعطی استلزاما حواریا مؤداه: أنا مخلص فی نصحکم، آمرکم بما آمر به نفسی، وتمثل الجملة حجة مقتبسة من کتاب الله -تعالى- أصدق کلام وأبلغه، قال تعالى )وَمَا أُرِیدُ أَنْ أُخَالِفَکُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاکُمْ عَنْهُ( هود 88.

والجملة مبنیة على افتراض مسبق هو مظنة الناس أنه یمکن أن یعظهم دونه، فجعل یبدی بها تضامنه مع المخاطبین، ویؤکد أنه لا یرید لهم إلا الخیر والصلاح.

       ثم یرسم مشهدا یظهر فیه خزی من یأمر بخلاف ما یفعل؛ إذ ینکشف عواره، وتشهد علیه جوارحه بقوله: (فتَخْسَرَ صفقَتِی، وتَظْهَرَ عورتی، وتَبْدُوَ مسکنتی، فی یوم یبدو فیه الغنی والفقیر، والموازین منصوبة، والجوارح ناطقة).

       وفی قوله (تخسر صفقتی) تصویر للعمل والمثوبة بصفقة بیع وشراء، إذ یقدم العمل فی الدنیا ثمن المثوبة فی الآخرة، هذه الصورة مستوحاة من البیئة التی یحرص أهلها على النفع المادی مخزونا معرفیا مشترکا. وهی صورة تؤکد حرصه على التسویة بینه وبین الرعیة؛ إذ لا یرضى أحد بالخسران.

       وتقریرا لمشهد الخزی الذی ینال من یأمر غیره بما ینهى عنه نفسه یتبع الجملة الجملة (وتظهر عورتی، وتبدو مسکنتی) فیالها من فضیحة یربأ بنفسه عنها، ویبرأ منها، والحال أن الموازین منصوبة والجوارح ناطقة، فلا مفر ولا مهرب، ولا مجال للإنکار، إنه یقدم تلک الجمل حججا قویة على أنه یأمر المخاطبین بما یأمر به نفسه، وأنه لهم ناصح أمین، إذ مخالفته لهم تؤدی إلى الخسران والفضیحة، وانکشاف العوار، والخزی والذل والهوان على رؤوس الأشهاد.

وقد تضامت الجمل (تخسر..، وتظهر..، وتبدو..) ووصل بینها بالواو للتوسط بین الکمالین مع قوة الجامع بینها، کونها جمیعا نتیجة المخالفة، وقد حسن الوصل اتفاقها فی الفعلیة والمضارعة.

       والمعنى: لو أمرتکم بما أنهى عنه نفسی لخسرت صفقتی وظهرت عورتی وبدت مسکنتی، فهو المذهب الکلامی عینه، لکن البلاغیین العرب لم یتوسعوا فیه توسع المحدثین فی الحجاج الذی أدرجوا فی سلکه البلاغة کلها، وأسموه البلاغة الجدیدة، فبذور الحجاج وغراسه عربیة، ونموه وتطوره وتوسعه غربی.

       وانظر إلى براعة استخدامه اسم المفعول (منصوبة) الذی استحضر صورة نصب الموازین بما له من دلالة الحال، وکأنها ماثلة الآن، واسم الفاعل (ناطقة) الذی خیل إلینا أن الجوارح قد نطقت بالفعل على حین أن زمان نطقها یوم الحساب؛ لیفید تحقق نطقها، وأنه کائن لا محالة مما یفضی إلى أن یخجل المرء من نفسه حین یخالف قولُه فعلَه.

والتعبیر بالوصف آلیة لغویة من آلیات الحجاج یتوسل بها إلى بلوغ الإقناع، والتأثیر فی المخاطبین، ودفعهم إلى السلوک القویم.

وقد وظف بنیة التقابل بین (الغنی) و(الفقیر) فی إفادة الشمول، فلن یتخذ الغنی ساترا ولن ینجو بجرائمه على نحو ما یحدث فی الدنیا، کل الناس فی هذا الیوم سواء، الأعمال ظاهرة والأسرار مکشوفة، وکلٌّ محاسب على ما اقترف، أی وإن کنتُ أمیر المؤمنین فی الدنیا فأنا وأنتم عند الله سواء یوم القیامة، هذا ما یلزم عن العبارة.

ویظهر من قوله (فلقد عنیتم بأمر ....) أن المراد بکلمة (أمر) المبهمة هنا أمر التکلیف وحمل الأمانة الذی جاء فی قوله -تعالى- )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَن یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ(   الأحزاب 72، والجملة مبنیة على افتراض استهتار الناس بالأمر وعدّه سهلا هینا وهو عند الله عظیم.

أراد أن یعبر عن ثقل الأمر، وحاجته إلى توطین النفس على الطاعة وتحمل مشقتها، فوصفه بقوله (لو عنیت به ....) والجملة الوصفیة هنا وظیفتها التداولیة هی التقریر، تقریر مشقة التکلیف، وعظم الأمانة، وثقل القیام بأعبائها؛ لیقول من وراء ذلک -دون تصریح- شمروا عن سواعد الجد، واجتهدوا فی العمل، وجاهدوا أنفسکم حق جهادها، هذه المقاصد هی عینها ما یلزم عن الجمل من استلزام حواری، وهکذا یصل إلى المخاطب أکثر مما یقال، وهو لب التداولیة.

       ویوظف التکرار (لو عنیت) لتأکید غرضه وتقریره فی النفوس، ویرتب علیه أمورا جساما فی جواب الشرط (لانکدرت، لذابت، لانفطرت) لیدل على شدة التأثر بهذا الأمر وقوته المهولة التی تعیا بها الجمادات، فما بالک أیها الإنسان الضعیف!؟ إنک بحاجة شدیدة إلى مساعدة نفسک ودرء المعاناة عنها.

وانظر إلى تعبیره بـ(ذوبان الجبال) کیف یصور ضعفها أمام هذا الأمر وقد عهدناها شامخة ثابتة أوتادا للأرض، لقد تبدل حالها مع هذا الأمر وصارت هشة وکأنها حفنة ملح أو نحوه قابلة للذوبان والتلاشی، هذه الاستعارة أدت دورا کبیرا فی التأثیر على السامع بانفعال نفسه بها، واقتناعه بما ترمی إلیه من أن یصیر المرء بعمله وطاعته أقوى من الجبال.

       لقد کلفتم أمرا تخر له النجوم ساقطة متناثرة، وتذوب له الجبال، وتشقق له الأرض، نجد الجمل واحدة تلو الأخرى تؤکد الغرض المسوق له الکلام، وقد عمل الشرط فیها على حبکها وإحکام نسجها، ومثل عنصرا من عناصر التماسک والانسجام.

وقد استخدم فی الشرط (لو) الامتناعیة لامتناع أن یعنى بهذا الأمر شیء مما ذکر (النجوم ولا الجبال ولا الأرض) وأنه منوط بالإنسان وحسب.

(أما تعلمون أنه لیس بین الجنة والنار منزلة، وأنکم صائرون إلى إحداهما؟) الاستفهام هنا عمل لغوی مباشر یؤدی عملا لغویا غیر مباشر هو التقریر الذی یؤدی إلى استنهاض الهمم وإثارة العزائم للعمل الذی یؤدی إلى الجنة، ویُجنِّب النار، لیختر کل منکم أیها المخاطبون لنفسه، ولینظر أین یُنزِلها، والفعل التأثیری هو التوجه إلى سلوک یؤدی إلى الجنة، فلیس الغرض أن یجیبوا: نعلم، أو لا نعلم، وإنما حفز الهمم للخیار الصائب، فالمرء حتما صائر إلى إحداهما، حیث لا منزلة بین المنزلتین؛ لیصیر هذا هو الفعل الکلامی العام للخطبة کلها، وربما لجمیع خطبه.

ویمکن هیکلة القیاس فی هذه الجملة هکذا:

    أما تعلمون..

    بلى نعلم

   ن: اختاروا لأنفسکم.

وهکذا تنتهی الخطبة نهایة مفتوحة تارکة المخاطبین مشدوهی الحواس مفتوحی الأفواه لیرجعوا ویرعووا ویختاروا الأصوب اختیارا بالعمل لا بالتمنی.

 الإشاریات: (تزودوا، وکونوا، وتقسو، وتنقادوا، ولا یصبح، ولا یمسی) إشاریات زمانیة مستقبلیة، والمضارع المقترن بـ(لا) الناهیة (لا یطولن) دلالته مستقبلیة هی النصح والتحذیر، والمضارع المقترن بـ(لا) النافیة (لا یدری) إشاریة زمانیة مستقبلیة أدت تقریر وصف الإنسان بأنه لا یأمن الموت فی أیة لحظة وعلى أیة حال، فهو یدل على المستقبل المتجدد.

       وعلیه، فقد سیطر زمن المستقبل بما له من حرکیة تتطلع إلى التحول والتغییر من واقع الأمة من الانشغال بملذات الدنیا إلى التزود للآخرة والعمل لها، والآخرة مدار الحدث الکلامی یناسبها الزمن المستقبلی؛ لیتناغم زمن أفعال الخطاب مع زمن محوره.

    

 

الخطبة الحادیة عشرة: فی وصل الإخوان والقناعة والزهد

وروی أنه قال:

"من وصل أخاه بنصیحة له فی دینه، ونظر له فی صلاح دنیاه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصیحة لکم فی دینکم، فاقبلوها، وموعظة منجیة فی العواقب، فالزموها، الرزق مقسوم، فلن یعدو المؤمن ما قُسم له، فأجملوا فی الطلب، فإن فی القنوع([84]) سعة، وبُلْغَةً، وکفافًا، إن أجل الدنیا فی أعناقکم، وجهنم أمامکم، وما ترون ذاهب، وما مضى فکأن لم یکن وکلٌّ أمواتٌ عن قریب، وقد رأیتم حالات المیت وهو یسوق[85]))، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله یقولون: قد فرغ رحمه الله، وعاینتم تعجیل إخراجه، وقسمة تراثه، ووجهه مفقود، وذکره منسی، وبابه مهجور کأن لم یخالط إخوان الحفاظ([86])، ولم یعمر الدیار، فاتقوا هول یوم لا یُحقر فیه مثقال ذرة فی الموازین".(([87]

یبدأ الخطبة بدایة مشوقة؛ إذ یستهلها بالشرط وما عطف علیه فیشوق إلى الجواب (فقد أحسن صلته) فیستقر فی الذهن، ویتأکد لدى السامع، فما أحکم سبک الجملة وارتباط أجزائها بعضها ببعض!!

       وقد عبر بالماضی (وصل) دون المضارع (یصل) للترغیب فی المبادرة إلى المطلوب حتى کأنه صار واقعا.

       ووسیلة الوصل هنا لیس مالا ولا عقارا یشق على النفس بذله، وإنما أمر بسیط لکن أثره عظیم، ذاک هو (النصیحة) التی جیء بها نکرة لتفید التعظیم.

       وقدم النصح فی الدین على النظر فی صلاح الدنیا لأهمیته وترتب صلاح الدنیا علیه، فمن أقام دینه استقامت دنیاه، والتعبیر بـ(نظر له فی صلاح دنیاه دون (أصلح له دنیاه) لا بد أن وراءه غرضا، هو أنه یُطلب من الدنیا الکفاف لا التمام، فیکفیه النظر فی إصلاح شیء منها، لا یُکلَّف أن یبلغ تمام الإصلاح.

       وتکرار (له) للتأکید على أن یکون الرجل حریصا على نفع أخیه، وقد وظف رد العجز على الصدر فی لفظین یجمعهما اشتقاق واحد هما (وصل) و(صلة) فاجتمع له التکرار والتأکید والجناس والجرس والتنغیم الذی یقرع الآذان، فتجد المعانی طریقها إلى الأذهان.

      وقد تکافأ الشرط والجزاء فی الزمن؛ لیفید سرعة بلوغه إحسان الصلة وأداء الحق، والجملة من الأفعال الکلامیة التقریریة.

ویمکن هیکلة القیاس فیما سبق هکذا:

    وصل أخاه بنصیحة له فی دینه.

    نظر له فی صلاح دنیاه.

   ن: أحسن صلته.

       وقد استدعى الحال وصل الجملة الثانیة بالأولى، فعطفت بالواو لاتفاقهما فی النوع مع وجود الجامع بینهما لما هو معلوم لدى السامع من أن صلاح حال المرء إنما یکون بهما معا (الدین والدنیا)، وحسَّن الوصلَ اتفاقُهما فی الصیاغة الفعلیة الماضویة.

       وانظر إلى إضافة الصفة إلى الموصوف فی (واجب حقه) حیث تفید تأکید أنه قد أدى الحق الواجب تمام الأداء.

       وفی قوله (فاتقوا الله فإنها نصیحة لکم فی دینکم، فاقبلوها، وموعظة منجیة فی العواقب، فالزموها) یعظهم بتقوى الله ویحثهم على قبول النصح، وینصحهم بلزوم الموعظة (اتقوا، اقبلوا، الزموا) فالعمل اللغوی المباشر هو الأمر بالتقوى والقبول واللزوم، یؤدی عملا غیر مباشر هو الوعظ والحث والنصح بما یحقق نفعهم، ویؤمنهم العواقب، وهو ذاته الغرض البلاغی للأمر، فلا فرق بین البلاغة والتداولیة، بل البلاغة سابقة.

       وتراه یتوخى تعظیم النصیحة والموعظة؛ إذ یستعمل فیهما فنیة التنکیر، وإبقاء لأثر النصح فی آذان السامعین وظف السجع المتوازی (اقبلوها، الزموها).

       ونسبة الإنجاء إلى الموعظة مجاز عقلی علاقته السببیة یؤکد عمق أثر الموعظة، وشدة تأثیرها؛ إذ تکون سبب النجاة المؤدی إلیها، ومن دونها الهلکة.

واستعماله للوصف (اسم الفاعل: منجیة) آلیة لغویة للحجاج، صنفت الموعظة بأنها من النوع الواجب الاتباع لتتحقق النجاة، حیث وقع اسم الفاعل صفة للموعظة " وتعد الصفة من الأدوات التی تمثل حجة للمرسل فی خطابه، وذلک بإطلاقه لنعت معین فی سبیل إقناع المرسل إلیه" [88] فهو یحشد لموعظته ما یکون سببا فی إقناعها، ولزوم السامعین إیاها.

       وتمثل الجملتان حجتین للقبول یمکن ترتیبهما على السلم الحجاجی:

   لزوم النصح

 

 

 

 

 

فالجملة الثانیة أقوى حجاجیا من الأولى؛ لکون الموعظة تحقق النجاة فی العواقب، لذا رتب علیها قوله (فالزموها) الأقوى مما رتب على الأولى (اقبلوها) فلزوم الشیء أدل على التمسک به وعدم الانفکاک عنه أو مفارقته من مجرد القبول.

ثم یتبع بقوله (الرزق مقسوم، فلن یعدو المؤمن ما قسم له، فأجملوا فی الطلب، فإن فی القنوع سعة، وبُلْغَةً، وکفافًا) أی الرزق مقسوم من الأزل، وکل ینال ما قسم له، لن یعدوه إلى غیره، فلا تبالغوا فی طلبه، واقنعوا بما قُسم لکم، ففیه الکفاف والبلغة والسعة.

        وانظر إلى الجملة الحاسمة التی لا جدال فیها ولا نقاش (الرزق مقسوم) والتعبیر باسم المفعول یدل على صرامة الفاعل، فالقسمة لا تراجع فیها ولا زیادة ولا نقصان، أی أن الأمر محسوم.

       ومعنا مقدمتان ونتیجة:

   الرزق مقسوم

   لن یعدو المؤمن ما قسم له

 ن: أجملوا فی الطلب.

فلن ینال أحد أکثر مما قسم له مهما اجتهد فی الطلب وألح علیه.

وترى الجمل قد بنیت على افتراض مسبق یتمثل فی أنهم جاءوه یطلبون العطایا والهبات على عادة ما یفعلون مع الخلفاء قبله مما هو مبنی على جد الناس فی طلب الدنیا وتکالبهم علیها.

       ویزین القنوع ویحببه إلى الناس بقوله (فإن فی القنوع سعة، وبُلْغَةً، وکفافًا) جامعا له المزایا الثلاثة مقدما المسند (فی القنوع) على المسند إلیه (سعة) تشویقا إلیه، وقد جعل القنوع وعاء حواها جمیعا على سبیل الاستعارة المکنیة التی تعد آلیة بلاغیة للحجاج تعمل على انفعال نفس المتلقی بها، والتأثیر فی قناعاته، وتوجیه سلوکیاته.

وقد حوت الجملة محسنا بدیعیا هو مراعاة النظیر بین (السعة) و(البلغة) و(الکفاف) وقد أطمع السامع فی القنوع وحببه إلیه بترتیب ثلاثتها؛ إذ قدم (السعة) الأمر المحبب إلى النفوس، ثم ثنى بما هو دونه (البلغة) ثم أردف (الکفاف) أقلها رتبة، إذن قدم ما یغری السامع بالقنوع ویجعله یقبل علیه سالکا إیاه عن طریق بنیة تقدیم بعض المتعاطفات على بعض.

وقد ساند ذلک استخدام فنیة التنکیر فی ثلاثتها الذی أفاد تعظیمها وامتدادها، والجملة فعل کلامی تقریری یعمل على إقناع السامع عن طریق (درجة الشدة المتضمنة فی القول) على حد قول التداولیین؛ إذ أکد الجملة بـ(إن) وتقدیم ما حقه التأخیر (المسند) على (المسند إلیه).

       ویتبع التعلیل تعلیلا آخر (إن أجل الدنیا فی أعناقکم) أی الدنیا فانیة عما قریب، عمرها قصیر، فاحتیاجاتکم فیها محدودة، فعلام طلب ما لا یُحتاج إلیه؟ إذن الأَوْلى لزوم القناعة، فالجملة حجة للإجمال فی طلب الرزق مؤکدة بـ(إن) مدعمة بصورة الکنایة کآلیة بلاغیة للحجاج فکونها (فی الأعناق) کنایة عن القرب، فقد أعطى المعنى وبصحبته الدلیل.

والجملة قد بنیت على افتراض مسبق هو تسویف الناس بالتوبة اعتقادا فی طول الأجل.

       ویزید فی الاحتجاج على نبذ الدنیا فیقول (وجهنم أمامکم، وما ترون ذاهب، وما مضى فکأن لم یکن وکلٌّ أمواتٌ عن قریب) أی إذا أسرفتم فی طلب الدنیا والمال فجهنم تنتظرکم، یخوفهم عاقبة الطمع، فتلک حجة للزوم القناعة، أی الزموا القناعة توقیا للنار.

(وما ترون ذاهب) کل متاع الدنیا إلى زوال، فقلیله وکثیره سواء، إذن لزوم القناعة أولى.

(ما مضى فکأن لم یکن) تعبیر عن قصر الدنیا، وسرعة نسیان ما مضى منها، فالجملة کنایة عن سرعة الانقضاء والنسیان، وأن مآل ما بقی من الدنیا مآل ما مضى، فلا فائدة فی التعویل علیه وادخار المال واقتناء المتاع له، إذن یؤول المقصد إلى لزوم القناعة أیضا المقصد العام للخطبة.

(وکلٌّ أمواتٌ عن قریب) تارکین متاع الدنیا وزخرفها، فعلام الجد فی طلبه؟ وفیم التنافس؟

وقد اختصر الأحیاء جمیعا فی کلمة (کل) إذ حذف المضاف إلیه وعوض عنه التنوین، فأحیاء الکون کله أموات عن قریب، وقد أخبر عن الشیء بضده عن (الأحیاء) بـ(أموات) لتتضح مفارقة تبدل الحال، وجاء الحکم صارما قاطعا بلا تسویف، مقرونا بالقرب، إذ عبر بالاسم (أموات) دون الفعل، فلم یقل (سوف یموتون) أو (یموتون) وإنما أراد تحقق الخبر وثبوته وکأنه قد کان بالفعل.

       ثم أتبع بما یترتب على الموت (وقد رأیتم حالات المیت وهو یسوق ....) عاینتم حالات المیت وهو فی النزع الأخیر وبعد فراغه، وحوله أهله ینظرون إلیه لا یملکون من أمره شیئا، إلا أن یدعوا له بالرحمة، وشاهدتم رأی العین تعجیل إخراجه ودفنه، وکیف یسارع القوم إلى اقتسام میراثه، وقد فُقِد وجهه، ونُسِی ذکره، وعزف الناس عن داره وهجروا بابه وکأنهم لم یکونوا أصدقاءه، بل لم یخالطوه، وکأنه لم یکن فی هذه الدار، فلا تمسکوا بالدنیا، ولا تجدوا فی طلابها، واعملوا لتوقی هول یوم لا یحقر فیه شیء من العمل الصالح وإن قل.

       وانظر إلى تعبیره بالمضارع (یسوق) کیف یستحضر صورة الإنسان وهو یعانی نزع الروح، ومبلغ المشقة فیه، وضعف الإنسان فی هذا الموقف، والفعل یجسد -أیضا- خروج الروح من الجسد شیئا فشیئا.

(والقوم حوله یقولون: قد فرغ رحمه الله) لا یملکون إلا القول، والجملة الأولى (قد فرغ) غرضها التحسر علیه، والثانیة (رحمه الله) الدعاء له، والبلاغة هنا تغنی عن القول بأنهما فعلان کلامیان فعلاهما الإنجازیان التحسر والدعاء.

       وقد فصل بینهما لاختلافهما خبرا وإنشاء من حیث المعنى؛ إذ الأولى خبریة، والثانیة إنشائیة معنى قصد بها الدعاء.

وللجملة استلزام حواری مؤداه أن القوم لا یملکون له شیئا، أولئکم الأهل والذریة والأحباب من کانوا عزوته ومناصریه کفوا أیدیهم، ولم یعد بإمکانهم دفع شیء عنه، فقط یقولون ….

       وقد عبر باسم المفعول (مفقود، ومنسی، ومهجور) دلالة على کثرة الفاعل؛ فلتعذر الإحاطة به لجأ إلى اسم المفعول لیدل على ما آل إلیه حال المرء بعـد موته، وکأنه لم یکن، "ویصنف اسم المفعول على أنه من الأوصاف الحجاجیة" ([89]) فقد دل على تحقق الفقد والنسیان والهجر مما لا یحاط به کثرة، جمیع ما کان له فی دنیاه من حظوة وأنس وأحباب قد فقد، فلتتوجه أیها المرء إلى ما یبقى ویخلد وهو الدار الآخرة، ولتنفض یدیک من متاع الحیاة الدنیا، والجمل مبنیة على افتراض مسبق: کان وجهه حاضرا، وکان مذکورا، وکان بابه مطروقا.

(کأن لم یخالط … ولم یعمر …) یستوی حاله -على ما کان علیه من کثرة الأصحاب وإعمار الدنیا- مع حال من لم یخالط أحدا ولم یعمر دارا، فالغرض هنا هو التسویة، وهو الاستلزام الحواری الذی تقول به التداولیة.

(فاتقوا) فعل أمر قوته الإنجازیة هی التحذیر والترهیب من أهوال القیامة، والحث على اتقائها بالعمل الصالح، وعدم احتقار شیء منه وإن صغر.

و(یوم) نکرة تفید التهویل والتعظیم، ثم یصفه بقوله (لا یحقر…) لتخصیصه؛ فالجملة الوصفیة من تقریریات (سیرل) وبناء الفعل للمجهول یدل على إنکار أن یکون له فاعل، وبالتالی لا یمکن أن یقع الفعل على العمل القلیل ما دام على الطریق القویم، وتنکیر (ذرة) للتقلیل، أی أقل شیء من العمل الصالح یثقل الموازین، ویؤثر فی مآل صاحبه، والجملة مبنیة على افتراض استصغار الناس لبعض الأعمال، وتهاونهم فی طلبها.

 وهی عمل لغوی تقریری، فعله التأثیری هو دفع المتلقی إلى أن ینشط فی العمل الصالح صغیره، وکبیره، عظیمه، وضئیله.

       وقد شاعت الإشاریات الشخصیة التی تدل على المرسَل إلیه، حیث ضمیر الغائب المستتر فی (وصل، ونظر، وأحسن، وأدى) و(واو) الجماعة فی (اتقوا، واقبلوها، والزموها، وأجملوا، وترون) و(کاف) الخطاب الموصولة بـ(میم) الجمع فی (لکم، ودینکم، وأعناقکم، وأمامکم) و(تاء) الخطاب فی (رأیتم)

وترجع دلالتها التداولیة إلى اهتمامه بالمقصودین بالخطاب، وحرصه على حضورهم، وجذب انتباههم، وجعلهم فی مواجهته؛ إذ المواجهة أحرى لقبول النصح، وعلیه فقد شکل جمهور المخاطبین الخطاب، ولا یقتصر ما تشیر إلیه هذه الضمائر على حاضری الخطبة بل تشمل کل مسلم فی کل مصر من أمصار الدولة الإسلامیة فی عهده.

       ویلاحظ أنه قد زوى ما یشیر إلى شخصه فی صورة إنکار لذاته، وإیثار للآخرین، ونبذ للتعالی والاعتداد بالنفس، وهذا أدعى لاستمالة المخاطبین وإقناعهم بما یرید.

أما الإشاریات الزمانیة: فتتضح إشاریة الزمن الکونی فی قوله (أجل الدنیا فی أعناقکم) حیث یشیر إلى حتمیة انتهاء الدنیا وقرب أمدها، وضرورة الحد من متاعها، واتخاذ الذخر لما بعدها.

 وفی قوله (فاتقوا هول یوم) المراد یوم القیامة، واستعمال الإشاریة الزمانیة هنا فیه دلالة على شدة الحاجة إلى العمل الصالح، ولو کان أقل ما یمکن توقیا لهول ذلک الیوم.

       وأما الزمن النحوی فی صیغ الأفعال، فقد استخدم الماضی فی فعل الشرط وجوابه (من وصل أخاه ……  فقد أحسن) ودلالته مستقبلیة فی الأصل ذلک أن الماضی فی مقام الشرط تتحول دلالته إلى المستقبل بقصد الترغیب فی الصلة؛ لإفادة المبادرة إلى الامتثال لیصبح المطلوب واقعا.

والماضی فی (رأیتم، وذاق، وفرغ، وعاین) یدل على التحقق، والفعل المضارع فی (لن یعدو) دلالته مستقبلیة؛ إذ یوحی بأنه مهما تقادم العهد ومضى الزمن فلیس للمرء من الرزق إلا ما قسم له، وفی (ترون) دلالته حالیة، أی ما ترونه ماثلا بین أیدیکم الآن مآله إلى الذهاب، و(لم) مع الفعل المضارع فی (لم یکن، ولم یخالط، ولم یعمر) تقلب دلالته إلى الماضی المنقطع البعید([90])أی کأن آثاره -فور موته- قد محیت منذ زمن بعید.

 واسم الفاعل فی (موعظة منجیة فی العواقب) و(ما ترون ذاهب) دلالته مستقبلیة، فالأول فیه تأکید لنفع الموعظة فی العواقب، والثانی یؤکد حتمیة ذهاب متاع الدنیا، وزواله مستقبلا وإن طال التمتع به.

واسم المفعول فی قوله (الرزق مقسوم) دلالته المضی الدال على القطع والتأکید، وانعدام الحیلة فیه من جهة، وعدم فواته من جهة أخرى، وفی (مفقود، ومنسی، ومهجور) یتحول الزمن إلى الدلالة المستقبلیة؛ لینتقل بنا المرسل من زمن الحال الذی یموج بالمتع واللذات والأنس بالأصحاب والأحباب إلى زمن المستقبل الذی یسوده الفقد والنسیان والهجر والزوال؛ حثا للمرء على تحصیل ما یؤنس وحشته المستقبلیة وهو العمل الصالح، والتخلی عن التعلق بأسباب الدنیا.

       وهکذا تنوعت دلالات الزمن بین الماضی والحال والمستقبل؛ لتعطی للنص حرکیة تسعى إلى التغییر، وتعمل على التحفیز على السلوک الذی یسعى إلیه المرسل من عدم التشبث بالدنیا، والحذر من المبالغة فی طلب نعیمها، والقناعة منها بالکفاف، والحث على تحصیل ما یبقى، ویقی أهوال یوم القیامة.

     وأما الإشاریات المکانیة فنجدها فی قوله (فی أعناقکم) و(أمامکم) قد وظفت للدلالة على القرب.


الخطبة الثانیة عشرة: فی خطورة العمل بلا علم، والحث على الصبر

وقال: "من عمل على غیر علم کان ما یفسد أکثر مما یصلح، ومن لم یعد کلامه من عمله کثرت ذنوبه، والرضا قلیل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه، فأعاضه مما انتزع منه الصبر، إلا کان ما أعاضه خیرًا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآیة: )إِنَّمَا یُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ              حِسَا بٍ( .([91])

 فی هذه الخطبة یسدی مجموعة من الحکم مستخدما أسلوب الشرط الذی یقوی العلاقة بین طرفیه ویوثقها، ویمثل عنصرا من عناصر تماسک النص والتحامه (من عمل على غیر علم ...) یبین سوء عاقبة العمل بلا علم، فیرتب علیه قوله (کان ما یفسد أکثر مما یصلح) وفی هذا بعد تداولی؛ إذ یبغی حث السامع على تحقیق رکیزة علمیة یقینیة یبنی علیها عمله لیکون مثمرا، وإلا صار إلى الفساد والخراب، وقد وظف التقابل بین الإفساد والإصلاح توظیفا سدیدا، لیتضح قبح الأول للمخاطب فیجتنبه.

       وفی الشرط الثانی یشیر إلى استخفاف الناس بالکلام، وعدم التعویل علیه فی الذنب، وأنهم یحسبونه هینا وهو عند الله عظیم (ومن لم یعد کلامه من عمله کثرت ذنوبه) فالکلام آفة تکب الناس فی النار على مناخیرهم إذا استعمل استعمالا سیئا، فلیحفظ المرء علیه لسانه؛ فإن آفاته عدیدة، وعدم الاعتبار بما یودی إلیه یکثر الذنوب، الأمر الذی ینبغی الحرص على السلامة منه.

       وجملة (والرضا قلیل) من إیجاز القصر، جملة من کلمتین تصف حال الناس، وما هم علیه من السخط وعدم القناعة، والتذمر لما ینزل بهم من مصیبة أو ضیق رزق أو نحوه، والطمع فی تحصیل المال والمتاع، والبعد التداولی للجملة إقناع الناس بلزوم الرضا والقناعة.

      ویرغب فی الصبر بقوله (ومعول المؤمن الصبر) إذ یلزم عنها استلزام حواری هو أن من لا یعول على الصبر لیس بکامل الإیمان.

ویمکن الاستغناء عن القول بالاستلزام الحواری بأن نقول: إن الغرض البلاغی للخبر هو الترغیب فی الصبر والحث على لزومه والتعویل علیه، وقد صیغت الجملة کحکمة صالحة لکل زمان ومکان.

       (وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه ….) جملة مرکبة طویلة تعضد الجملة السابقة وتدعمها وتذیلها وتؤکد غرضها من الترغیب فی الصبر، فالصبر المعوِّض عن النعمة المنتزعة خیر منها؛ ذلک أن أجر الصابرین عطاء واف ممتد بغیر حساب.

وقد جاءت الجملة على سبیل الحصر الذی یمنع أن یشذ عن الحکم المضمن فیها شیء، وأید ذلک بالتعبیر بالنکرتین (عبد، ونعمة) الذی أفاد الشمول، فالحکم یشمل کل عبد وکل نعمة، أیا کان حال العبد، وعلى أی وصف کانت النعمة وأیا کان نوعها، أیة نعمة انتزعت من أی عبد فعوَِض الصبر کان الصبر خیرا له، ویبدو أن الجملة تشیر إلى الحدث الأکبر فی خلافة عمر وهو رد العطایا إلى بیت المال؛ فالبعد التداولی هو إقناع الناس برد العطایا.

 ثم علل الحکم بالآیة الکریمة، فأقام الدلیل والحجة القاطعة على صحة ما قدم من حکم، فالآیة حجة لها سلطانها الذی لا یُرَد، وبذا قد تضمنت الخطبة احتجاجا بالشاهد القرآنی، لیقنع الناس بالسلطة العلیا للخطاب الدینی بعظم أجرهم على الصبر على نزع العطایا منهم.

ویمکن هیکلة القیاس هکذا:

    الصبر خیر من النعمة المنتزعة

    أجره بغیر حساب

    ن: الزموا الصبر.

       و(ما) الموصولة فی جملة (کان ما أعاضه خیرا) لتعظیم الصبر وتفخیم شأنه.

ومن الإشاریات: (من عمل على غیر علم) إشاریة مستقبلیة لأن الماضی فی سیاق الشرط، و(لم یعد) أفاد السیاق أنه إشاریة مستقبلیة أیضا، فالأفعال فی الخطبة تدل على الزمن الممتد.


الخطبة الثالثة عشرة: فی نبذه الدنیا حتى أبکى الناس

وحدث شبیب بن شیبة، عن أبی عبد الملک قال: کنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فکنا نقوم لهم، ونبدؤهم بالسلام، فخرج علینا عمر بن عبد العزیز -رَضِیَ اللَّهُ عَنْه- فی یوم عید، وعلیه قمیص کتان، وعمامة على قلنسوة لاطئة([92])، فمثلنا بین یدیه، وسلمنا علیه، فقال: مه أنتم جماعة وأنا واحد، السلام علی، والرد علیکم، وسَلَّمَ فرددْنا، وقربت له دابته فأعرض عنها، ومشى ومشینا، حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى علیه وصلى على النبی صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:

"وددت أن أغنیاء الناس اجتمعوا، فردوا على فقرائهم، حتى نستوی نحن بهم، وأکون أنا أولهم"، ثم قال: "ما لی وللدنیا؟ أم ما لی ولها؟ وتکلم فأرق، حتى بکى الناس جمیعًا، یمینًا وشمالا"، ثم قطع کلامه ونزل، فدنا منه رجاء بن حیوة، فقال له: یا أمیر المؤمنین، کلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبکاهم، ثم قطعته أحوج ما کانوا إلیه، فقال: یا رجاء إنی أکره المباهاة".([93])

بدایة کلام الراوی تدل على أن الحال اختلف فی عهد عمر عمن کان قبله من الخلفاء، کان الحرس یقومون لهم ویبدؤونهم بالسلام فلما فعلوا ذلک معه أنکره علیهم قائلا:

(مه أنتم جماعة وأنا واحد) انتقد فعلهم، وأوضح لهم بتواضعه الجم وخلقه الرفیع أن السلام علیه؛ لأنه واحد وعلیهم الرد؛ لأنهم جماعة (السلام علی، والرد علیکم) إنه لا یرى لنفسه أفضلیة علیهم حتى تبدأه الجماعة بالسلام إنما هو واحد من الناس.

وجاءت جملته الأولى وکأنه ینهرهم عن الفعل (بدؤهم إیاه بالسلام) مستخدما اسم الفعل (مه) أی کفوا، ثم أورد سبب طلب الکف مغنیا إیاهم عن السؤال بقوله (أنتم جماعة) إذن راعى المخاطب وما یمکن أن یدور بخاطره، فقدم جواب السؤال، لذا فصلت الجملة عن سابقتها، وهو ما یعرف بشبه کمال الاتصال، وهذا ملحظ تداولی قد فطن إلیه عبد القاهر والسکاکی وغیرهما.

وعبر بالجملتین الاسمیتین (السلام علی، والرد علیکم) لیفید الثبوت والدوام، أی لا تبدأونی بالسلام مرة أخرى، فهو علیَّ دائما.

       ویؤکد تواضعه للحرس بإعراضه عن الدابة ومشیه معهم حتى وصل المنبر.

هذا هو السیاق المقامی (الخارجی) قبل الخطبة.

ثم یبدأ نص الخطبة بالفعل الماضی (وددت) لیدل على تعلقه بمطلوبه من زمن بعید مستغرقا الزمن الحالی باقیا للمستقبل، هذا المطلوب أن یجتمع الأغنیاء فیردوا من أموالهم على الفقراء حتى یستووا بهم.

ویلاحظ أنه یستعمل استراتیجیة معینة لاستمالة الناس ؛ إذ لم یأمرهم مباشرة، لم یقل: أیها الأغنیاء ردوا من أموالکم على الفقراء، وإنما قال إن هذا أمر مودود، ویلاحظ انتقاله من ضمیر المفرد إلى ضمیر الجمع فی قوله (حتى نستوی نحن بهم)  لیفید اندماجه مع سائر الأغنیاء، وتکافله معهم فی هذا العمل، أی أنه لا یرید أمر الناس دونه، وإنما یریده لنفسه قبلهم، وقد أکد ذلک بقوله (وأکون أنا أولهم) إنه یقدم نفسه منذ البدایة شخصیة متواضعة بدءا من اللباس ونهر الحرس أن یبدأوه بالسلام، ومرافقته لهم فی المشی، وإعراضه عن الدابة، وهنا یرید تسویة عیشه بعیش الناس بأن یکون أول من یردّ من ماله على الفقراء، وقد حذف مفعول الفعل (ردوا) قصد العموم لیشمل کل شیء، ولا یقید بمعطى بعینه؛ لیرد الأغنیاء نقودا، طعاما، لباسا، أرضا، منازل، دواب .....

       إنه لا یکتفی بأن یعطی الأغنیاء شیئا من أموالهم للفقراء، بل یرید تساوی الفریقین حتى یستوی عیش الخلیفة بعیش سائر الناس، فلا یکون لأحد أفضلیة على أحد.

       ثم قال (مالی وللدنیا؟ أم مالی ولها؟) وهنا یؤدی الاستفهام فعلا کلامیا هو التعجب وإنکار أن یکون له مع الدنیا شأن، أو بها تعلّق، وهو ما یعبر عنه فی البلاغة العربیة بالغرض البلاغی أو المعنى المجازی للاستفهام.

یقول الراوی (وتکلم فأرق، حتى بکى الناس جمیعا، یمینا وشمالا) ولم یرد نص ما تکلم به، وسیاق الکلام یعطی دلالة أن کلامه کان فی نبذ الدنیا والتعلق بالآخرة، یقول الراوی (ثم قطع کلامه ونزل، فدنا منه رجاء بن حیوة، فقال له: یا أمیر المؤمنین، کلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبکاهم، ثم قطعته أحوج ما کانوا إلیه، فقال: یا رجاء إنی أکره المباهاة)

      فی الحوار الذی دار بینه وبین رجاء بن حیوة، رجاء یلومه على قطع کلامه والناس أحوج ما کانوا إلیه، فیأتی جوابه مبینا السبب مؤکدا بـ(إن) لیدل على عمق قناعته بمضمونه، ولیزیل ما فی نفس رجاء من تساؤل عن سبب القطع، ثم جاء خبر (إن) جملة فعلیة، أی قدم المسند إلیه على الخبر الفعلی(أکره) لیفید تقویة الحکم وتوکیده، وهو ما یعد من قسم التقریریات فی الأفعال الکلامیة عند (سیرل).

والجملة الأخیرة مبنیة على افتراض مسبق هو أن إبکاءه الناس بالکلام الرقیق مظنة المباهاة؛ لذا قطع کلامه ونزل.

       وقد غاب بقیة نص الخطبة، لکن حضر سیاقه الخارجی بما یتیح فرصة لتحلیل الموقف أکثر من النص الذی جاء مبتورا، وبالتالی لا وقوف لنا على کلامه الذی کان له هذا التأثیر فی جمهور المخاطبین حتى وصل بهم إلى البکاء الذی شملهم جمیعا، لکن هذا یقطع بقدرة المرسل الخطابیة وبلاغته الانفعالیة الإقناعیة وامتلاکه قلوب المخاطبین.

وقد تضمنت الخطبة إشاریات شخصیة مثل إشاریة المخاطبین الضمیر (أنتم) لتعظیم المخاطبین وحفظ أقدارهم، ثم قرنها بإشاریة إلى شخص المرسل بقوله (وأنا واحد) لیدل على تواضعه لهم.

وقد کثرت الإشارة إلى شخص المرسل حیث ضمائر المتکلم فی (وددت، نستوی نحن، أکون أنا، مالی، إنی) لیقدم القدوة للمخاطبین حتى یتأسوا به.

 قول الراوی (خرج علینا فی یوم عید ...) إشاریة زمانیة تدل على تواضع لباسه فی هذا الیوم الذی یلبس فیه الناس الجدید الحسن، وعلى الرغم من الصیغة الماضیة للفعلین (وددت، ردوا) إلا أن هما بمعونة السیاق یدلان على الزمن الممتد، وللفعل (نستوی) الدلالة المستقبلیة، والفعل (أکره) حال ممتد إلى المستقبل، فهو یکره المباهاة الآن وتستمر کراهیته لها مستقبلا.

       ومن الإشاریات المکانیة فی الخطبة (بین یدیه) حیث تحمل الإشاریة هنا معنى إعلان الطاعة، و(المنبر) یحمل معانی الوعظ والتوعیة والتنویر الذی یصدر ممن هو أهل للتلقی بالقبول لما له من سلطة سیاسیة ودینیة، وقول الراوی (یمینا وشمالا) إشاریة مکانیة تؤکد شمول البکاء للناس جمیعا مما یوحی بعمق تأثیر الخطبة فیهم، وقدرة الخطیب على أن یلین قلوبهم.


الخطبة الرابعة عشرة: تذکیرٌ بالموت وحرصٌ على کفایة الرعیة

وخطب بخناصرة([94]) خطبة لم یخطب بعدها حتى مات! رحمه الله تعالى، فحمد الله وأثنى علیه، ثم قال:

"أیها الناس: إنکم لم تخلقوا عبثًا، ولم تُترکوا سدًى، وإن لکم معادًا یحکم الله فیه بینکم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التی وسعت کل شیء، وحُرِمَ الجنةَ التی عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه، وباع قلیلا بکثیر وفانیًا بباقٍ، ألا ترون أنکم فی أسلاب الهالکین، وسیخلفها من بعدکم الباقون، کذلک حتى تُردوا إلى خیر الوارثین، ثم أنتم فی کل یوم تشیعون غادیًا ورائحًا إلى الله، قد قضى نحبه([95]) وبلغ أجله، ثم تغیبونه فی صدع([96]) من الأرض، ثم تدعونه غیر مُوسَدٍ ولا مُمهَدٍ، قد خلع الأسبابَ، وفارقَ الأحبابَ، وواجه الحسابَ، مرتَهَنًا بعمله، غنیًّا عما ترک، فقیرًا إلى ما قَدَّمَ، وایم الله إنی لأقول لکم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منکم من الذنوب أکثر مما عندی، فأستغفر الله لی ولکم، وما تبلغنا عن أحد منکم حاجة یتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منکم إلا وددت أن یده مع یدی، ولحمتی([97]) الذین یَلُوننی، حتى یستوی عیشنا وعیشکم، وایم الله إنی لو أردتُ غیر هذا من عیش أو غضارة([98]) لکان اللسان منی ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه، لکنه مضى من الله کتاب ناطق وسنة عادلة، دلَّ فیها على طاعته، ونهى فیها عن معصیته"، ثم بکى، فتلقى دموع عینیه بطرف ردائه، ثم نزل، فلم یُرَ على تلک الأعواد([99]) حتى قبضه الله.([100])

      یبدأ بالنداء لتنبیه الناس لما یلقى بعد لأهمیته، والتداولیون یقولون النداء فعل کلامی قوته الإنجازیة هی الإقبال.

       وجملة (إنکم لم تخلقوا عبثا) جملة خبریة مؤکدة نزل الناس فیها منزلة من یظن أنه خلق عبثا؛ ذلک لما بدا على الناس من الانشغال بالدنیا عن الطاعات، وکأن لا حساب بعدها؛ إذ انشغلوا بالإقبال على الدنیا عما خلقوا لأجله وهو العبادة.

وتمثل الجملة فعلا کلامیا من تقریریات (سیرل) فالتأکید یقرر الحکم.

       ویتبع بقوله (وإن لکم معادا) وهنا یؤکد الجملة بـ(إن) وتقدیم ما حقه التأخیر، وکأن الناس ینکرون القیامة، أی أن المخاطبین نزلوا منزلة من ینکر یوم المعاد لما بدا علیهم من علامات الإنکار، إذ لم یحسنوا الاستعداد لهذا الیوم، وتنکیر (معاد) للتعظیم والتهویل.

ثم یصف المعاد بقوله (یحکم الله فیه بینکم) والجملة من تقریریات (سیرل) لأنها وقعت صفة لنکرة، وأسند الفعل إلى لفظ الجلالة (الله) لتربیة المهابة؛ لیخجل المرء من وقوفه بین یدی الله عاصیا خائبا.

(فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التی وسعت کل شیء) الجملة خبریة أرید بها إنشاء الدعاء بالخیبة والخسران على من لم یحرز له مکانا فی رحمة الله على سعتها، فالجملة فعل کلامی قوته الإنجازیة الدعاء -على قول التداولیین- والأول یغنی عنه.

والمسند إلیه معرف بالموصولیة لتقریر غرض استحقاقه الخیبة والخسران من خلال الصلة (خرج من رحمة الله) وکأنه خرج طواعیة لعدم حفاظه على مکانه من تلک الرحمة الواسعة، وهذا یغنی عن القول بأن جملة الصلة من تقریریات (سیرل) فقد جاء فی البلاغة العرب من أغراض التعریف بالموصولیة تقریر الغرض المسوق له الکلام.

       ویضم إلى الجملة السابقة قوله (وحرم الجنة التی عرضها السموات والأرض) لالتقائهما؛ فالحرمان من الجنة یترتب على الخروج من الرحمة، إذ الجنة مکان الرحمة، فأیة خیبة وأی خسران!!! 

       (واعلموا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه) انظر إلى براعته فی صیاغة الجملة، کیف ولد من الخوف أمانا، ولا عجب فالخوف هنا هو خوف الله تعالى، ورعایة محارمه، والوقوف عند حدوده، فإذا کان المرء وجلا من ربه فی دنیاه نعم بالأمان غدا فی أخراه.

     (وباع قلیلا بکثیر) المقصود بالقلیل متاع الحیاة الدنیا، قال تعالى )فَمَا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ( [101])) (وفانیا بباق) ترغیبا فی الآخرة یصف ما یخصها بالکثرة والبقاء، وفی المقابل ما یخص الدنیا بالقلة والفناء، فبضدها تتمایز الأشیاء، ولبنیة الطباق تأثیر کبیر على المتلقی فی إقناعه بالآخرة والعمل لها فهی الحیاة الباقیة الدائمة المتمتَّع فیها بالنعیم المقیم.

        (ألا ترون أنکم فی أسلاب الهالکین) یستعمل الاستفهام بما له من حرکیة تضفی على ذهن السامع نشاطا، وتجعله یعود إلى نفسه ویفکر فی أمره حتى یجد الجواب، وغرض الاستفهام التقریر، أی أن یجیب المخاطبون (بلى، نحن فی أسلاب الهالکین) لیقتنعوا بأنهم سیؤولون إلى ما آل إلیه أسلافهم، ویلاحظ أنه لم یقل (ثیاب السابقین) أو (الماضین) وإنما اختار الأسلاب المضافة إلى الهالکین؛ لیُقنِع المخاطبین بأن ما بین أیدیهم مآله إلى غیرهم، وسیهلکون مثل أسلافهم، فیجعلوا الموت على ذکر منهم، ولا یغفلوا عن العمل لما بعده، فاسم الفاعل (الهالکین) آلیة لغویة من آلیات الحجاج.

ولم یکتف بذلک، بل أکده بما بعده؛ إذ ذیل بقوله (وسیخلفها من بعدکم الباقون) وقد استعمل (السین) الدالة على المستقبل القریب دون (سوف) التی فیها التراخی للدلالة على قرب الآجال الذی یستوجب إحسان العمل قبل فوات الأوان.

والأمر تباعا (کذلک حتى تردوا إلى خیر الوارثین) حتى تبلغوا المثول بین یدی الله الذی یرث الأرض ومن علیها.

(ثم أنتم فی کل یوم تشیعون غادیًا ورائحًا إلى الله) أی أن الأمر مجرب عیانا یومیا فی الغدو والرواح تشیعون الموتى إلى بارئهم، فلستم فی حاجة إلى التذکیر بالموت؛ إذ الأدلة مشاهدة، فالفعل (تشیعون) مع ما اقترن به من إشاریات زمانیة (یوم، غادیا، رائحا) أفاد التجدد والاستمرار مستقبلا.

       وقد استعمل ترکیبا یفید تقویة الحکم وتوکیده، إذ قدم المسند إلیه (أنتم) على الخبر الفعلی (تشیعون) فالجملة فعل کلامی تقریری.

(ثم تغیبونه فی صدع من الأرض) فمآل المرء شق فی الأرض، یغیب فیه أثره، وینقطع ذکره، ویخلو فیه وحده، بعد أن کان یسکن القصور الواسعة، ویسامر الأحباب ویأنس بهم، فالصیغ هنا إشاریة مکانیة، تحمل معنى الفناء وغیاب الأثر (ثم یدعونه غیر موسد ولا ممهد) بلا وسادة ولا فراش، وکان أمس یفترش الحریر، ویتوسد ریش النعام، انظروا إلام یصیر!!

        (قد خلع الأسبابَ، وفارقَ الأحبابَ، وواجه الحسابَ، مرتَهَنًا بعمله، غنیًّا عما ترک، فقیرًا إلى ما قدم) أی ترک أسباب الحیاة، وهنا یحاج بالصورة البیانیة؛ إذ شبه عرض الحیاة وأسبابها بالثیاب، ثم حذف الثیاب ورمز إلیها بشیء من لوازمها وهو (خلع) على سبیل الاستعارة المکنیة؛ لیدل على تجرد المرء من أسباب الحیاة تجردا کاملا وتخلیه عنها کما یتجرد من ثیابه.

       وتتوالى الجمل التی تمثل حججا على أن جمیع ما کان له فی الدنیا لن ینفعه إلا العمل (وواجه الحساب مرتهنا بعمله) لن یخرج من الدنیا إلا بعمله (غنیا عما ترک) من متاع الدنیا الذی قضى عمره یجمعه (فقیرا إلى ما قدم) محتاجا إلى العمل الصالح أشد ما تکون الحاجة، وقد وظف المرسل المقابلة توظیفا سدیدا لیقارن بین الحالین ویوضحهما ، فالتضاد یقوی المعنى ویوضحه، فما ترکه قد نفض منه یدیه ولا حاجة إلیه، وما قدم من عمل هو الحاضر الباقی الذی تمس الحاجة إلیه، وانظر إلى دقة النظم فی  تنصیب الغنى والفقر حالا، فهو متلبس بهما أیما تلبس.

        وقد وظف السجع (الأسباب، الأحباب، الحساب) لیقرع الأسماع بالنغمات المتماثلة التی ترجف لها القلوب وجَلًا من الموت وما بعده.

(وایم الله إنی لأقول لکم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منکم من الذنوب أکثر مما عندی) یقدم الدلیل على أنه ناصح أمین، لا یتعالى علیهم بالموعظة ویعد نفسه من الذنوب براء، ویلاحظ أنه قد أکد بالقسم، و(إن) و(اللام) عادًّا نفسه أکثر الناس ذنوبا، مستعملا النکرة (أحد) التی تفید العموم، أی کل أحد أقل منی ذنوبا. والجملة من تقریریات (سیرل) حیث التأکید المعبر عن درجة الشدة المتضمنة فی القول، وهی مبنیة على افتراض مسبق هو أن الناس یمکن أن یعتقدوا أنه مغتر بطاعته وأن العظة لهم وحسب، أو أنه یرى أنه أقل منهم ذنوبا.

        ثم یستغفر من تلک الذنوب (فأستغفر الله لی ولکم) والجملة خبریة قصد بها الدعاء، وتعد من (الاستلزام الحواری) والقول بوضع الخبر موضع الإنشاء لغرض الدعاء -على ما جاءت به البلاغة العربیة- یغنی عنه، (لی ولکم) استراتیجیة تضامنیة سبقت الإشارة إلیها.

        (وما تبلغنا عن أحد منکم حاجة یتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منکم إلا وددت أن یده مع یدی، ولحمتی الذین یَلُوننی، حتى یستوی عیشنا وعیشکم) یظهر فی هذه الفقرة حرصه على کفایة الرعیة وسد حاجاتهم، والتکافل معهم، مستعملا الحصر، فأیا کانت الحاجة فهو یقوم بسدادها ما اتسع لها ما عنده، ویلاحظ أنه استخدم الفعل الماضی فی قوله (سددناها) لیفید تحقق الوقوع، ویکون برهانا على صدق القول والنیة، وتعد الجملة من الأفعال الکلامیة الالتزامیة، حیث یلزم المتکلم نفسه بفعل فی المستقبل عن صدق وإخلاص.

      ویکنی عن التکافل بقوله (یده مع یدی، ولحمتی الذین یَلُوننی) ثم یصرح بقوله (حتى یستوی عیشنا وعیشکم) فتلک هی الغایة التی یریدها، یرید أن یستوی عیشه بعیش الرعیة، وهو یبنی على افتراض علو مستوى عیشه على عیش الرعیة، کما أنه یسوی بین الرعیة وقرابته، أی أنه لا یحابی أحدا على أحد.

وقد جاء الترکیب فی صورة القصر؛ للتأکید على استقصاء کل الحاجات التی ترفع إلیه لإیقاع السداد علیها، ویکرر القسم (وایم الله إنی لو أردتُ غیر هذا من عیش أو غضارة لکان اللسان منی ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه) یرید أنه یستطیع تحصیل عیش فوق هذا (لکنه مضى من الله کتاب ناطق وسنة عادلة) یحثان على القصد والاعتدال، وتنکیر (کتاب، وسنة) للتعظیم، مما یزید فی الإذعان لهما وطاعة ما جاء فیهما.

       وانظر إلى تقدیم الجار والمجرور (من الله) على الفاعل (کتاب) کیف یبادر ببیان سبب الإذعان والطاعة، إنه کتاب من السلطة العلیا التی لا یرد لها أمر، ولا یجادل لها فی حکم، ویعد التقدیم هنا من آلیات الحجاج البلاغیة، التی یعلل بها إعراضه عن فخامة العیش، وإیثاره الزهد.

       ویوظف المقابلة لخدمة الغرض بقوله (دل فیها على طاعته، ونهى فیها عن معصیته) فالجملتان متقابلتان توضحان شمول الکتاب والسنة، وإرشادهما إلى الطاعة، وتحذیرهما من المعصیة، ومن الطاعة خفض العیش والتکافل، ومن المعصیة ترک الرعیة یعانون الحاجة والعوز.

        یقول الراوی: (ثم بکى فتلقى دموع عینیه بطرف ردائه، ثم نزل، فلم یُرَ على تلک الأعواد حتى قبضه الله).

وقد دل الراوی على غزارة الدمع بالتعبیر بجمع الکثرة، وحاجته إلى التلقی بطرف الرداء، وهذا دلیل على شدة وجله، وعظم تأثره، وصدق موعظته، وأحرى للتأثیر فی المخاطبین؛ إذ البکاء هنا یرسم شخصیة المرسِل صادقة، رقیقة القلب، یقظة الضمیر، تجل الله وتخشاه، وتقف عند حدوده، بل تتسم بالزهد والورع.

        وصدق المرسِل یؤول عند المرسَل إلیه إلى تصدیق الخطاب والقناعة بفحواه، ویدفع إلى الامتثال والاقتداء، وتلک غایة تداولیة.

وأما قوله: (فلم یُر على تلک الأعواد …) فیدل به على أنها آخر خطبة له، وکأنها وصیة المیت التی یجب الحرص على تنفیذها.     

والإشاریات الشخصیة: یغلب فیها ما یعود على جمهور المخاطبین، حیث ضمائر الخطاب المتصلة والمنفصلة و(واو) الجماعة المتصلة بالأفعال، فهم محور الخطاب، والمقصودون بالموعظة، وبؤرة اهتمام الخطیب، فکان لا بد من شغلهم مساحة واسعة من الخطاب؛ لیسمعوا ویعوا ویستجیبوا للوعظ.

ثم لما أراد التعبیر عن المیت الذی انزوی وغاب عن الحیاة ناسبه ضمیر الغائب بارزا ومستترا فی قوله (قد قضى نحبه وبلغ أجله، ثم تغیبونه فی صدع من الأرض، ثم تدعونه غیر مُوسَدٍ ولا مُمهَدٍ، قد خلع الأسبابَ، وفارقَ الأحبابَ، وواجه الحسابَ، مرتَهَنًا بعمله، غنیًّا عما ترک، فقیرًا إلى ما قَدَّمَ) ففرقٌ بین نوعی الضمیر (الحضور، والغیاب).

أما إشاریات الخطیب فقد أخرها إلى آخر الخطبة، تواضعا وإنکارا للذات (إنی لأقول، أعلم، عندی، أستغفر، تبلغنا، عندنا، سددناها، وددت، لحمتی، عیشنا، أردت، منی) ویلاحظ أن الضمیر المتصل (نا) لم یستعمل تعظیما لنفسه -على حد قول النحاة إنه لجمع المتکلمین أو المفرد المعظم نفسه- وإنما استعمله لیبث الثقة والطمأنینة فی نفس المتلقی فیما یعد به من کفالة وضمان، وکأنه یقول أنا کفیل بسدادها کما لو تکفل بها جمع من الناس، إن أخل واحد نفذ البقیة، فسدادها نافذ على أیة حال.

والإشاریات الزمانیة تمثلت فی (غدًا) وهی مستقبلیة المقصود بها یوم القیامة، واستعمال الغد إشارة إلى القرب، وبالتالی قرب تحقق الأمان المرغَّب فیه.

و(الجنة) إشاریة مکانیة تدل على عظم الخسران الذی لحق من حُرِمها؛ إذ حرم من مکان النعیم الخالد على سعته، و(الصدع) إشاریة مکانیة تعنی الفناء وغیاب الأثر واختفاءه.

الخطبة الخامسة عشرة: حث الشاکین على الرجوع إلى بلادهم

وروى أن آخر خطبة خطبها رحمه الله: حمد الله، وأثنى علیه، ثم قال:

"أیها الناس. الحقو ببلادکم، فإنی أنساکم عندی، وأذکرکم ببلادکم، ألا وإنی قد استعملت علیکم رجالا، لا أقول هم خیارکم، ولکنهم خیرٌ ممن هم شرٌّ منهم، ألا فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علی([102])، ألا وإنی منعت نفسی وأهل بیتی هذا المال، فإن ضننت به علیکم إنی إذن لضنین، والله لولا أن أنعش[103])) سنة، أو أسیر بحق، ما أحببت أن أعیش فَواقا".([104])

       ینادی الناس للفت انتباهم متخطیا أداة النداء رغبة فی الوصول السریع إلى الآذان ومنها إلى القلوب والأذهان، ثم یذکر ما نادى لأجله، ذلک أن العاصمة امتلأت بالناس من مختلف أرجاء الدولة الإسلامیة، فهو یحثهم على العودة إلى بلادهم، فإذا لحقهم ظلم ممن ولاهم علیهم فلهم أن یدخلوا علیه بلا إذن.

فالأمر (الحقوا) غرضه الحث، وغایته التداولیة دفع الناس إلى الرحیل عن دمشق واللحاق ببلادهم، ثم یعلل الأمر ویرغِّب فی تنفیذه بقوله ( فإنی أنساکم عندی، وأذکرکم ببلادکم) مستعملا التوکید لأن مضمون الجملة مما یمکن أن یشک فیه المخاطب؛ إذ الحضور أدعى للذکر لا النسیان، لکن الأمر عنده مختلف، ینساهم بحضورهم عنده فی العاصمة، ویذکرهم ببلادهم، ربما لأنه مثلا یتابع أحوال العاصمة بسجل من فیها وهم لیسوا منها، لکنهم فی سجلات بلادهم فهم هناک ینالون المتابعة حتما، والجملتان حجتان قویتان تدفعان الناس إلى الرحیل عن العاصمة، وقد وظف فیهما فنیة التقابل؛ لیتضح الضد بضده، فیختار المخاطب أفضلهما، معبرا بالمضارع لیفید التجدد والاستمرار.

(ألا وإنی قد استعملت علیکم رجالا ...) یستهل الجملة بـ(ألا) لینبه ویحقق ما بعدها، ثم یؤکد ما بعدها بـ(إن) و(قد) فاجتمعت على الجملة ثلاثة مؤکدات؛ لیقنع المخاطبین بمضمونها لیلحقوا ببلادهم وهم على بینة وبصیرة بأن من ولاهم علیهم من الأخیار، فلن یُضاموا فی بلادهم.

والجملة من الأفعال الکلامیة التقریریة المتضمنة درجة الشدة فی القول على حد قول التداولیین.

       ویستخدم فنیة التقابل مرة أخرى فی قوله (ولکنهم خیرٌ ممن هم شرٌّ منهم) أی الخیریة متوفرة فیهم، أی لیسوا بشرار القوم، فإذا قارنتموهم بمن هو شر منهم بان لکم حسنهم وصلاحهم.

       ویکرر (ألا) فی قوله (ألا فمن ظلمه عامله بمظلمة) لینبه على أمر جلل لم یعهد من خلیفة قبله، هو الدخول علیه بلا إذن حین التعرض لمظلمة، ویعبر بالنکرة (مظلمة) لیفید العموم لکل المظالم صغیرها وکبیرها، وأیا کان نوعها فی المال أو الولد أو النفس أو غیرها یحق لصاحبها أن یدخل علیه بغیر إذن طلبا سریعا لرفعها، وإحلال العدالة محلها، ورد الحقوق لأصحابها.

       وجملة (فلا إذن له علی) ینشأ عنها استلزام حواری هو أنه صاحب حق یبیح له الدخول على الخلیفة بلا إذن؛ ذلک أن مظلمته تمثل تصریح الدخول.

(ألا وإنی منعت نفسی وأهل بیتی هذا المال، فإن ضننت به علیکم إنی إذن لضنین) تنتج الجملة استلزاما حواریا هو أنه منع نفسه وأهل بیته هذا المال لیکون للرعیة، ویصدر حکما على نفسه أنه إن بخل به على الرعیة فهو متهم، وقد حشد للعبارة المؤکدات مما یدل على عنایته البالغة بتقریرها وتمکینها لدى المخاطبین، إذن هو یرید أن یقنع الناس بأن هذا المال لهم، وقد آثرهم به على نفسه وأهل بیته، والتأکید من الآلیات اللغویة المستعملة فی الحجاج.

وفی الکلام قیاس یمکن هیکلته هکذا:

      منعت نفسی وأهل بیتی هذا المال.

      إن ضننت به علیکم فأنا متهم مذموم.

      ن: المال لکم.

واستعمال (إن) الشرطیة (إن ضننت) المفیدة للشک والندرة یؤید عزم الرجل على إیصال الحقوق إلى أصحابها، ووضع المال موضعه الذی ینبغی؛ إذ البخل به على الرعیة ومنعهم إیاه أمر مشکوک فیه.

واعتراض (إذن) بین اسم (إن) وخبرها یحدد زمن وصفه بـ(ضنین) بزمن منعه الرعیة، إذن هو واثق بأن ذلک المنع لن یکون.

إذن یرمی إلى إقناعهم بالرجوع إلى بلادهم على نفقات بیت المال، وستتبعهم عطایاهم أو نصیبهم من العطاء أینما کانوا.

       ویزین الفقرة ویربط بین أولها وآخرها بمحسن بدیعی هو رد العجز على الصدر (ضننت …. ضنین) الذی یمثل رابطا من روابط التذکر، ونغمة موسیقیة تثری النص ویجعل الألفاظ تتردد على الأسماع فتتأکد دلالتها فی القلوب.

(والله لولا أن أنعش سنة، أو أسیر بحق، ما أحببت أن أعیش فَواقا) یؤکد بالقسم أنه لا یتعلق بالدنیا ولا یحرص على أن یعمر، وأنه یود مرورها سریعا؛ لیصل إلى دار المقر، فهو لا یتعلق بها إلا لیرفع سنة، أو یحق حقا، ولولا هذان الغرضان لما أحب العیش ولو مدة قصیرة.

ویلاحظ أنه نکَّر (سنة، حق) توخیا للتعظیم، فهما اللذان یستحقان الحیاة لأجلهما.

       وقوله (ما أحببت أن أعیش فَواقا) کنایة عن قصر المدة، وبدلا من أن یقول: ما أحببت أن أعیش یوما أو ساعة مثلا، آثر هذه الصورة المنتزعة من البیئة العربیة؛ لتحمل دلالة أن هذه الفترة -وإن کان ینتظر أن تنتج- لا یرغبها، فالمدة الزمنیة الفاصلة بین الحلبتین یبدأ اللبن فیها فی التجمع فی الضرع، أی أن خیرها آتٍ، ولکن بعد حین، لکنه یرید الخیر المتحقق بلقاء الله -تعالى- والخلاص من الدنیا وأوزارها.

       وتنکیر (فواقا) للتقلیل، وعبر بالمصدر المؤول (أن أعیش) لیدل على التلبس بالفاعل، أی لا یحب العیش لنفسه، ویلاحظ أنه عبر بالمضارع فی (أنعش) و(أسیر) لرغبته فی تجدد الفعلین، على حین عبر بالماضی فی (ما أحببت) رغبة فی تجاوز الفعل.

والاستلزام الحواری للجملة هو نبذ الدنیا، ورفض التعلق بها، الذی یلمح إلى تزهید الناس فیها، وهو الغرض البلاغی أو المقصد من الخبر کما تقول البلاغة العربیة.  

وقد تحققت نجاعة الخطاب؛ إذ "سال الناس إلى بلادهم فرحین أن تلحق بهم العدالة فی الطریق" ([105]) 


الخاتمــة

قام البحث بتطبیق الدرس اللسانی التداولی على الخطاب العربی ممثلا فی خطب عمر بن عبد العزیز - رضی الله عنه- مع الربط بین البلاغة والتداولیة، بما للتداولیة من جذور فی البلاغة العربیة، فجاء التحلیل مزاوجا بینهما.

وقد توفرت الخطب على عناصر سیاقیة، واستراتیجیة توجیهیة، وأدلة حجاجیة، وکان لها نواتج تأثیریة على المخاطبین؛ مما جعلها مجالا خصبا لتلک الدراسة.

       وبعد العرض والتحلیل توصل البحث إلى مجموعة من النتائج:

-أن للتداولیة جذورا ضاربة فی البلاغة العربیة.

-التداولیة من البلاغة فی الصمیم، ولا غنى للتداولیة عن البلاغة.

-التداولیة تؤثر فی تشکیل النص تشکیلا بلاغیا حین یستدعی السیاق التأکید أو الفصل أو الوصل.....، وقدیما قالوا: البلاغة مطابقة الکلام لمقتضى الحال.

-تتداخل البلاغة والتداولیة أحیانا، وأحیانا تکون التداولیة ظل البلاغة الذی یتبعها.

- إذا کان فی النص صورة بیانیة فإن الحجاج -الذی هو من أهم قضایا التداولیة- ظل لها، ویتمثل ذلک فی إقناعها بما لها من وظیفة استدلالیة.

-یغلب على الخطب التأکید، وهو یدخل ضمن الأفعال الکلامیة التقریریة المتضمنة درجة الشدة فی القول، ویرجع هذا إلى رغبة المرسِل فی إقناع مخاطبیه بمدلول خطبه، ودفعهم إلى السلوک المرتجى من الخطاب.

-یعد الافتراض المسبق الذی تقول به التداولیة من (الإیجاز) فی البلاغة العربیة، حیث یستغنی السیاق المقالی عن ذکر ما هو مفهوم من المقام، وهو -أیضا- جزء مما یعلمه المتکلم من حال المخاطب، فیراعیه فی تشکیل خطابه، والمخاطب -بلا شک- جزء من المقام أو الحال فی البلاغة العربیة.

-الاستلزام الحواری هو المعانی الثوانی أو المجازیة أو الأغراض والمقاصد فی البلاغة العربیة، فالتداولیة فی هذا الصدد لم تأتِ بجدید حیث یستعمل جرایس (1975) مصطلح المعنى الضمنی للحدیث عما یمکن أن یضمنه أو یوحی به أو یعنیه متکلم ما فوق ما یصرح به ظاهر کلامه ([106]) وهذا ما سبق إلیه عبد القاهر فی نظریة المعنى ومعنى المعنى.

-یتداخل الاستلزام الحواری مع القوة المتضمنة فی القول للأفعال الکلامیة والناتج التأثیری حتى یتحدا، وهذا تعدید للمصطلحات التداولیة والمؤدَّى واحد.

-عنیت الإشاریات بطرفی التخاطب (المتکلم والسامع) عبر ما یتضمنه النص من ضمائر المتکلم وضمائر المخاطب، وهما -أیضا- محل اهتمام البلاغة العربیة وعلیهما مدارها؛ فطبعی أن یوجد فی النص ما یشیر إلى کل منهما، کما أن الزمان والمکان والعلاقة الاجتماعیة بین المتخاطبین کلها معتبرة فی البلاغة العربیة؛ إذ تندرج تحت مصطلح (المقام) یبقى للتداولیة عمق تحلیلها لتلک العناصر للوصول إلى دلالات خفیة تستشف من السیاق.

-تتفق البلاغة والتداولیة فی " دراسة الوسائل اللغویة التی یستعملها المتکلم فی عملیة التواصل وعوامل المقام المؤثرة فی اختیار أدوات معینة دون أخرى للتعبیر عن قصده کالعلاقة بین الکلام وسیاق الحال، وأثر العلاقة بین المتکلم والمخاطب على الکلم والمقاصد من الکلام" ([107])

-البلاغیون العرب لهم قصب السبق فی ربط المقال بالمقام.

-الجدید الذی تقدمه التداولیة التوسع فی تحلیل الخطاب اعتمادا على توسیع العنایة بالسیاق، وهذا -بلا شک- یخدم النص ویزید فی الکشف عن مضامینه.

-امتلاک عمر بن عبد العزیز فلسفة لغویة، وبلاغة عالیة، وقدرة حجاجیة یستطیع الوصول بها إلى ما یرید.

     یوصی البحث بضرورة الکشف عن جذور النظریات والمناهج الحدیثة فی أصول التراث العربی لإنصافه، والاستفادة من معطیاتها فی تحلیل النصوص العربیة.



([1]) المقاربة التداولیة، فرانسواز أرمینکو، تر/ سعید علوش، مرکز الإنماء القومی -الرباط 1986م، ص12.

([2]) التداولیة، جورج یول، تر/ د. قصی العتابی، ط1 الدار العربیة للعلوم ناشرون -بیروت، دار الأمان -الرباط 2010م، ص19.

([3]) التداولیة من أوستین إلى غوفمان، فیلیب بلانشیه، تر/ صابر الحباشة، ط1 دار الحوار للنشر والتوزیع -سوریة 2007م، ص 18،19.

([4])التداولیة من أوستین إلى غوفمان، فیلیب بلانشیه، تر/ صابر الحباشة، ط1 دار الحوار للنشر والتوزیع -سوریة 2007م ، ص 19.

([5]) النص والسیاق: استقصاء البحث فی الخطاب الدلالی والتداولی، فان دایک، ترجمة عبد القادر قنینی، أفریقیا الشرق 2000 م، ص292.

([6]) البراغماتیة وعلم التراکیب بالاستناد إلى أمثلة عربیة، ضمن أعمال الملتقى الدولی الثالث فی اللسانیات، سلسلة اللسانیات ع6، المطبعة العصریة -تونس 1987م، ص125.

([7]) البحث اللسانی والسیمیائی، طه عبد الرحمن، کلیة الآداب والعلوم-الرباط1981، 301-302 .

([8]) بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب -الکویت 1992م، ص31.

([9]) نظریة أفعال الکلام العامة (کیف ننجز الأشیاء بالکلام) أوستین، تر/ عبد القادر قینینی، أفریقیا الشرق -الدار البیضاء 1991م، ص 16.

([10]) آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجامعیة –الإسکندریة 2002م ص 68.

([11]) ینظر: نظریة أفعال الکلام العامة (کیف ننجز الأشیاء بالکلام) أوستین، ص 174 وما بعدها، آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، ص46.

([12]) آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، ص 49،50.

([13])  )Ch.perelman & O. tyteca Trait de l argumentation: La nouvelle rhetorique .preface de Michel Meyer .del universite de Broxelles 1992 p.5.: نقلا عن

الحجاج فی البلاغة المعاصرة، (بحث فی بلاغة النقد المعاصر)، محمد سالم محمد الأمین الطلبة، ط1 دار الکتاب الجدید المتحدة- بیروت 2008م ص107.

([14]) الحجاج فی البلاغة المعاصرة، ص107.

([15]) الحجاج مدخل نظری وتطبیقی، محمد الولی، ضمن: الحجاج مفهومه ومجالاته –دراسات نظریة وتطبیقیة محکمة فی الخطابة الجدیدة، تحریر وإشراف /حافظ إسماعیلی علوی، ابن الندیم للنشر والتوزیع، ودار الروافد الثقافیة ناشرون –الجزائر، بیروت 2013م 1/62.

([16]) اللغة والحجاج، أبو بکر العزاوی، ط1 العمدة فی الطبع 2006م، ص14.

([17]) ینظر: آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، ص 18-25.

([18]) التداولیة عند العلماء العرب (دراسة تداولیة لظاهرة الأفعال الکلامیة فی التراث اللسانی العربی) د. مسعود صحراوی، ط1 دار الطلیعة –بیروت 2005م، ص 30،31.

([19]) تحلیل الخطاب، ج ب .براون ، ج. یول ، ترجمة وتعلیق /د. منیر التریکی ،د. محمد لطفی الزلیطنی، جامعة الملک سعود –الریاض 1993م. ص51.

([20]) التداولیة، یول، ص51.

([21]) ینظر: آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، ص 33.

([22]) التداولیات وتحلیل الخطاب، جمیل حمداوی، ط1، 2015م، ص30.

([23]) ینظر: آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، ص 34.

([24]) ترجمة مختصرة من: تاریخ الخلفاء، لجلال الدین السیوطی تحقیق/ حمدی الدمرداش، ط1 مکتبة نزار مصطفى الباز 1425هـ-2004م، ص171-183.

([25]) الخلیفة الزاهد عمر بن عبد العزیز، عبد العزیز سید الأهل، دار نهضة مصر -القاهرة (د.ت) ص 180-183.

([26]) المُتَحَرِّجُ الکافُّ عن الإِثم، …. والتحریج التضییق (لسان العرب، مادة: حرج).

([27]) تاریخ الطبری، محمد بن جریر الطبری، ط2 دار التراث - بیروت 1387 هـ 6/ 427، جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة (العصر الأموی)، أحمد زکی صفوت، ط1 المکتبة العلمیة –بیروت 1933م، خطبة رقم 179، 2/201 .

([28]) تعنی النتیجة.

([29]) صحة العبارة (إنما نحن فروع من أصول قد مضت) أو (إنما نحن فروع قد مضت أصولها).

([30]) خرج القوم یَنْتضِلون إِذا اسْتَبَقوا فی رَمْی الأَغْراض (لسان العرب، مادة: نضل) أی تتسابق إلیهم المنایا..

([31]) الشَّرَقُ: الشجا والغُصّة (لسان العرب، مادة: شرق).

([32]) مروج الذهب، المسعودی، المطبعة البهیة المصریة -القاهرة 1346 هـ، 2/ 168، والأمالی، لأبی علی القالی، الهیئة المصریة العامة للکتاب -القاهرة 1976م، 2/ 113 وسیرة ومناقب عمر بن عبد العزیز الخلیفة الزاهد، لابن الجوزی، ضبطه وشرحه وعلق علیه/ الأستاذ نعیم زرزور، دار الکتب العلمیة -بیروت 2001 م، ص250، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 180، 2/202.

([33]) ینظر: التداولیة عند العلماء العرب، مسعود صحراوی ص185.

([34]) ینظر: شرح الأشمونی على ألفیة ابن مالک، الأشمونی، ط1 دار الکتب العلمیة -بیروت 1419هـ-  1998 م، 1/126 .

([35]) الإشارات والتنبیهات، محمد بن علی الجرجانى، تحقیق أ د/عبد القادر حسین. ط مکتبة الآداب 1997م، ص33.

([36]) استراتیجیات الخطاب -مقاربة لغویة تداولیة، عبد الهادی بن ظافر الشهری، ط 1 دار الکتاب الجدید المتحدة –بیروت 2004م ص 488.

([37]) تجتذبون (لسان العرب، مادة: جرر). 

([38]) سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص65،254، وسیرة عمر بن عبد العزیز، لابن عبد الحکم، تحقیق أحمد عبید، ط6 عالم الکتب -بیروت 1984م، ص41، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 181، 2/203.

([39]) اللغة والحجاج، ص 105.

([40]) التداولیة الیوم: علم جدید فی التواصل، آن روبول، جاک موشلار، تر/ د. سیف الدین دغفوس، د. محمد الشیبانی، مرجعة د. لطیف زیتونی، المنظمة العربیة للترجمة، ط1 دار الطلیعة للتوزیع والنشر -بیروت 2003م، ص 30.

([41]) ینظر الإیضاح مع البغیة، الخطیب القزوینی والشیخ عبد المتعال الصعیدى، نشر مکتبة الآداب 1999م 2/275.

([42]) لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابی، ط1 المرکز الثقافی العربی -بیروت، الدار البیضاء 1991م، ص25.

([43]) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجانی، تحقیق/ محمود شاکر، ط3 المدنی -جدة والقاهرة 1992م، ص 71.

([44]) البیان والتبیین، الجاحظ، دار ومکتبة الهلال، بیروت 1423 هـ، 1/95

([45]) خطاب الحجاج والتداولیة –دراسة فی نتاج ابن بادیس الأدبی، عباس حشانی ،ط1 عالم الکتب الحدیث -إربد2014، ص305.

([46]) نظریة الأفعال الکلامیة فی البلاغة العربیة، ملاوی صلاح الدین، مجلة کلیة الآداب والعلوم الإنسانیة والاجتماعیة، جامعة محمد خیضر –بسکرة، العدد الرابع جانفی 2009، ص5،4.

([47]) الخلیفة الزاهد (عمر بن عبد العزیز)، عبد العزیز سید الأهل، ص6.

([48]) ینظر: التداولیة عند العلماء العرب، ص 185.

([49]) الخلیفة الزاهد، ص90.

([50]) ینظر: استراتیجیات الخطاب، الشهری، ص 256 وما بعدها.

([51]) ینظر: الخلیفة الزاهد، ص 88.

([52]) سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص69، وص198، ولابن عبد الحکم ص40 ومروج الذهب 2: 168، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 183، 2/204.

([53]) ینظر: استراتیجیات الخطاب، ص 528.

([54]) إعجاز القرآن، الباقلانی، تحقیق: السید أحمد صقر، (د.ط) دار المعارف -مصر (د.ت) ص 228،229 وسیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص234، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 184، 2/205.

([55]) قَلَصَ الظلُّ یَقْلِصُ عنی قُلوصاً انقبض وانضمّ وانْزَوَى (لسان العرب، مادة: قلص).

([56]) المَغْنى: واحد المَغانی، وهی المواضع التی کان بها أهلوها (الصحاح فی اللغة، مادة: غنی)

([57]) سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی 257 وص232، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 185، 2/205.

([58]) ینظر: بغیة الإیضاح 2/359.

([59]) أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجانی. تحقیق/محمود شاکر، ط1 المدنی، القاهرة، جدة 1991م. ص 20.

([60]) ینظر: بغیة الإیضاح 1/ 44.

([61]) اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ وﻣﺒﻨﺎﻫا، تمام ﺣﺴﺎن، ط 5 عالم الکتب، 1427هـ-2006م،               ص 337.

([62]) حجاجیة المجاز والاستعارة، د. حسن المودن، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته، –دراسات نظریة وتطبیقیة محکمة فی الخطابة الجدیدة، مجموعة من المؤلفین، إشراف /حافظ إسماعیلی علوی، ط1 ابن الندیم للنشر والتوزیع –الجزائر، روافد الثقافة ناشرون –بیروت 2013م ، 3/166.

([63]) أسرار البلاغة، ص11.

([64]) الفواق: قدر ما بین الحلبتین من الراحة (لسان العرب، مادة: فوق)، والخطبة فی: سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص237، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 186، 2/206.

([65]) اللسان والمیزان، أو التکوثر العقلی، طه عبد الرحمن، ط2 المرکز الثقافی العربی –الدار البیضاء 2006م ص 233.

([66]) التداولیة، یول، ص94.

([67]) الإیضاح مع البغیة، 2/275

(1) زَوْفُ الحمامة: إذا نشرت جناحیها وذنبها على الأرض. (لسان العرب / زوف) .

([69]) یمکن أن یفسر (الدین) هنا بما جاء فی لسان العرب (والدین: الطاعة) مادة (دین).

([70]) سیرة عمر بن عبد العزیز، لابن عبد الحکم ص42، ولابن الجوزی ص240، الخلیفة الزاهد، لعبد العزیز سید الأهل، ص117، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 187، 2/206.

([71]) الحجاج فی البلاغة المعاصرة، ص238،237.

([72]) فی بلاغة الخطاب الإقناعی –مدخل نظری وتطبیقی لدراسة الخطابة العربیة، الخطابة فی القرن الأول نموذجا، محمد العمری، أفریقیا الشرق –الرباط   2002، ص 117.

([73]) الجلم: المقص (ینظر: لسان العرب، مادة: جلم)

([74]) سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص126، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 189، 2/207.

([75]) ینظر: التحریر والتنویر، للطاهر بن عاشور، دار سحنون -تونس 1997م، 3/294،293.

([76]) التداولیة عند العلماء العرب، ص 208.

([77]) المرجع السابق، ص 210.

([78]) ینظر الخلیفة الزاهد، ص 97.

([79]) البیان والتبیین،1/83.

([80]) ینظر: النص والسیاق، فان دایک،، ص 295

([81]) العقد الفرید، لابن عبد ربه الأندلسی، راجعه وحققه/ إبراهیم محمد صقر، ط1 مکتبة مصر -القاهرة 2008 م، 3/ 73 وسیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص232، والجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 193، 2/209.

([82]) ینظر: قضایا اللغة العربیة فی اللسانیات الوظیفیة، احمد المتوکل، ط1 دار الأمان -الرباط، منشورات ضفاف -بیروت، منشورات الاختلاف -الجزائر 2013م، ص122.

([83]) ینظر: التداولیة عند العلماء العرب، ص 185.

([84]) استعمل القُنُوعُ فی الرِّضا (لسان العرب، مادة: قنع).

([85]) رأیت فلاناً یَسُوق سوقاً أی یَنْزِع نَزْعاً عند الموت (لسان العرب، مادة: سوق).

([86]) أهل المُحافظة على العَهْد والمُحاماةُ على الحُرَم (لسان العرب، مادة: حفظ).

([87]) تاریخ الطبری 6/572،571، وسیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی 242، وجمهرة خطب العرب، خطبة رقم 194، 2/210.

[88] ) استراتیجیات الخطاب، الشهری، ص486.

([89]) استراتیجیات الخطاب، ص 489.

([90]) اتجاهات التحلیل الزمنی فی الدراسات اللغویة، محمد عبد الرحمن الریحانی، دار قباء-القاهرة، ص92.

([91]) من الآیة 10سورة الزمر، والخطبة فی تاریخ الطبری 6/572، وسیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص249، والجمهرة، خطبة رقم 195، 2/210.

([92]) لاطِئةٌ: لازِقةٌ (لسان العرب، مادة: لطأ).

([93]) العقد الفرید 3/ 74، الجمهرة، خطبة رقم 196، 2/211.

([94]) بلیدة من أعمال حلب تحاذی قنّسرین نحو البادیة (معجم البلدان، یاقوت الحموی، ط2 دار صادر- بیروت 1995 م، 2/390).

([95]) أجله (لسان العرب، مادة: نحب).

([96]) شقّ (لسان العرب، مادة: صدع).

([97]) اللُّحْمَةُ بالضم القرابة (لسان العرب / لحم).

([98]) الغَضارة النّعْمة والسَّعة فی العیش (لسان العرب / غضر)

([99]) الأعواد: المنبر، جاء فی لسان العرب "العودانِ مِنْبَرُ النبی - صلى الله علیه وسلم - وعَصاه" مادة (عود).

([100]) تاریخ الطبری 6/571،570، والبیان والتبیین 2/ 82، والعقد الفرید 3/ 75، والأغانی، لأبی الفرج الأصفهانی، شرحه وکتب هوامشه/ الأستاذ عَبد أ. علی مهنا، ط2 دار الفکر (د.ت). 9/ 306،305، وعیون الأخبار، ابن قتیبة الدینوری، دار الکتب العلمیة -بیروت 1418 هـ م2: ص268 ، وسیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص259، ولابن عبد الحکم ص42 و116، الجمهرة، خطبة رقم 197، 2/211.

([101]) التوبة 38.

([102]) أی یدخل علی بلا إذن، لا یحول بینی وبینه حاجب (جمهرة خطب العرب، 2/212).

([103]) نَعَشَه اللَّهُ یَنْعَشُه نَعْشاً وأَنْعَشَه رَفَعَه (لسان العرب / نعش).

([104]) سیرة عمر بن عبد العزیز لابن الجوزی ص89، 247، ولابن عبد الحکم ص41، والجمهرة، خطبة رقم 198، 2/212.

[105] ) الخلیفة الزاهد ص144.

([106]) تحلیل الخطاب، ج ب .براون ، ج. یول ، ص51.

([107]) تحلیل الخطاب، براون، یول، ص32.

المصادر والمراجع
- آفاق جدیدة فی البحث اللغوی المعاصر، محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجامعیة –الإسکندریة 2002م.
- اتجاهات التحلیل الزمنی فی الدراسات اللغویة، محمد عبد الرحمن الریحانی، (د.ط) دار قباء-القاهرة (د.ت).
- استراتیجیات الخطاب -مقاربة لغویة تداولیة، عبد الهادی بن ظافر الشهری، ط 1 دار الکتاب الجدید المتحدة –بیروت 2004م.
- أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجانی، تحقیق/محمود شاکر، ط1 المدنی، القاهرة، جدة 1991م.
- الإشارات والتنبیهات، محمد بن علی الجرجانى، تحقیق أ.د/عبد القادر حسین، (د.ط) مکتبة الآداب 1997م.
- إعجاز القرآن، الباقلانی، تحقیق/ السید أحمد صقر، (د.ط) دار المعارف -مصر (د.ت).
- الأغانی، لأبی الفرج الأصفهانی، شرحه وکتب هوامشه/ الأستاذ عَبد أ. علی مهنا، ط2 دار الفکر (د.ت).
- الأمالی، لأبی علی القالی، الهیئة المصریة العامة للکتاب -القاهرة 1976م.
- البحث اللسانی والسیمیائی، طه عبد الرحمن، کلیة الآداب والعلوم-الرباط 1981م.
- البراغماتیة وعلم التراکیب بالاستناد إلى أمثلة عربیة، ضمن أعمال الملتقى الدولی الثالث فی اللسانیات، سلسلة اللسانیات ع6، المطبعة العصریة -تونس 1987م.
- بغیة الإیضاح، الشیخ عبد المتعال الصعیدى، مکتبة الآداب 1999م.
- البیان والتبیین، الجاحظ، دار ومکتبة الهلال-بیروت 1423 ه.
- تاریخ الخلفاء، جلال الدین السیوطی تحقیق/ حمدی الدمرداش، ط1 مکتبة نزار مصطفى الباز 1425هـ-2004م.
- التحریر والتنویر، للطاهر بن عاشور، دار سحنون -تونس 1997م.
- تحلیل الخطاب، ج ب .براون ، ج. یول ، ترجمة وتعلیق /د. منیر التریکی ،د. محمد لطفی الزلیطنی ،جامعة الملک سعود –الریاض 1993م.
- التداولیات وتحلیل الخطاب، جمیل حمداوی، ط1، 2015م.
-التداولیة، جورج یول، تر/د. قصی العتابی، ط1 الدار العربیة للعلوم ناشرون -بیروت، دار الأمان -الرباط 2010م.
- التداولیة الیوم: علم جدید فی التواصل، آن روبول، جاک موشلار، تر/ د. سیف الدین دغفوس، د. محمد الشیبانی، مرجعة د. لطیف زیتونی، المنظمة العربیة للترجمة، ط1 دار الطلیعة للتوزیع والنشر -بیروت 2003م.
- التداولیة عند العلماء العرب (دراسة تداولیة لظاهرة الأفعال الکلامیة فی التراث اللسانی العربی) د. مسعود صحراوی، ط1 دار الطلیعة –بیروت 2005م.
- التداولیة من أوستین إلى غوفمان، فیلیب بلانشیه، تر/ صابر الحباشة، ط1 دار الحوار للنشر والتوزیع -سوریة 2007م.
- جمهرة خطب العرب فی عصور العربیة الزاهرة (العصر الأموی)، أحمد زکی صفوت، ط1 المکتبة العلمیة –بیروت 1933م
- الحجاج فی البلاغة المعاصرة (بحث فی بلاغة النقد المعاصر)، محمد سالم محمد الأمین الطلبة، ط1 دار الکتاب الجدید المتحدة-بیروت 2008 م.
- الحجاج مدخل نظری وتطبیقی، محمد الولی، ضمن: الحجاج مفهومه ومجالاتـه – دراسات نظریة وتطبیقیة محکمة فی الخطابة الجدیدة، تحریر وإشراف /حافظ إسماعیلی علوی، ابن الندیم للنشر والتوزیع، ودار الروافد الثقافیة ناشرون –الجزائر، بیروت 2013م.
- حجاجیة المجاز والاستعارة، د. حسن المودن، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاتـه – دراسات نظریة وتطبیقیة محکمة فی الخطابة الجدیدة، مجموعة من المؤلفین، إشراف/حافظ إسماعیلی علوی، ط1 ابن الندیم للنشر والتوزیع –الجزائر، روافد الثقافة ناشرون –بیروت 2013م.
- خطاب الحجاج والتداولیة –دراسة فی نتاج ابن بادیس الأدبی، عباس حشانی، ط1 عالم الکتب الحدیث -إربد2014م.
- الخلیفة الزاهد عمر بن عبد العزیز، عبد العزیز سید الأهل، دار نهضة مصر -القاهرة (د.ت).
-دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجانی، تحقیق/ محمود شاکر، ط3 المدنی -جدة والقاهرة 1992 م.
- سیرة عمر بن عبد العزیز، ابن عبد الحکم، تحقیق أحمد عبید، ط6 عالم الکتــب -بیروت 1984م.
- سیرة ومناقب عمر بن عبد العزیز الخلیفة الزاهد، ابن الجوزی، ضبطه وشرحه وعلق علیه/ الأستاذ نعیم زرزور، دار الکتب العلمیة -بیروت 2001م.
- شرح الأشمونی على ألفیة ابن مالک، الأشمونی، ط1 دار الکتب العلمیة -بیروت 1419هـ- 1998م.
- العقد الفرید، ابن عبد ربه الأندلسی، راجعه وحققه/ إبراهیم محمد صقر، ط1 مکتبة مصر-القاهرة 2008 م.
- عیون الأخبار، ابن قتیبة الدینوری، دار الکتب العلمیة -بیروت 1418 هـ.
- قضایا اللغة العربیة فی اللسانیات الوظیفیة، أحمد المتوکل، ط1 دار الأمان -الرباط، منشورات ضفاف -بیروت، منشورات الاختلاف -الجزائر 2013م.
- لسان العرب، ابن منظور، تحقیق/ أمین محمد عبد الوهاب، محمد الصادق العبیدی، ط3 إحیاء التراث العربی - بیروت 1999م
- اللسان والمیزان، أو التکوثر العقلی، طه عبد الرحمن، ط2 المرکز الثقافی العربی –الدار البیضاء 2006م.
- لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابی، ط1 المرکز الثقافی العربی -بیروت، الدار البیضاء 1991م.
- اللغة والحجاج، أبو بکر العزاوی، ط1 العمدة فی الطبع 2006م.
- اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ وﻣﺒﻨﺎﻫا، ﲤﺎم ﺣﺴﺎن، ط 5 عالم الکتب، 1427هـ-2006م.
- مروج الذهب، المسعودی، المطبعة البهیة المصریة -القاهرة 1346 ه.
- معجم البلدان، یاقوت الحموی، ط2 دار صادر-بیروت 1995م.
- المقاربة التداولیة، فرانسواز أرمینکو، تر/ سعید علوش، مرکز الإنماء القومـی -الرباط 1986م
- النص والسیاق: استقصاء البحث فی الخطاب الدلالی والتداولی، فان دایک، ترجمة/ عبد القادر قنینی أفریقیا الشرق 2000 م.
- نظریة أفعال الکلام العامة (کیف ننجز الأشیاء بالکلام) أوستین، تر/ عبد القادر قینینی، أفریقیا الشرق -الدار البیضاء 1991م.