الفوائد الدعوية الجلية المستنبطة من صلح الحديبية (( دراسة تحليلية ))

المساهمين

المؤلف

قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، کلية الدعوة وأصول الدين، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملکة العربية السعودية.

المستخلص

لما أن السيرة النبوية قد حظيت باهتمام العلماء، فصنفوا فيها الأسفار، وحققوا مصادرها في مصنفات عديدة، وبينوا ما صح منها وما ضعف من روايات، فقد استفاد الباحث من ذلک الجهد واجتهد في إيراد النص من مصدره الأصلي، ثم حلل النص الذي يحتاج إلى تحليل مع بيان فوائده،  ولذلک کُرّس الجهد في النظر في الفوائد والعبر والمواعظ التي وردت في صلح الحديبية، فاستجلت وقدمت بما ياوافق مع حاجات اليوم؛ بغية الربط بين فوائد هذا الصلح العظيم ومتطلبات الأمة اليوم، المتجددة  في صور متقاربة حسب الأزمان، وعلى ضوء ما سبق جاء البحث ببعض الفوائد التي يستفيد منها القارئ الکريم أولها: حکم جواز العمرة في أشهر الحج لمن لا يريد الحج، وکذلک م ن الفوائد التي خرج بها هذا البحث المتواضع في قلته، أن حفظ الدماء أولى من سفکها، وهناک فوائد جمّة وردت في البحث أمنياتنا أن يستفيد منها القارئ الکريم، ويجعلها ربي صدقة جارية.
The biography of the Prophet (p.b.u.h.) has caught scholars’ attention, so they have collected and verified what has been written in this regard, and they have indicated the authentic and non-authentic narrations. This research paper makes use of this effort, refers each text to its original source, analyzes the text when necessary, and points out its benefits. It focuses on studying the benefits, the lessons, and the morals inferred from this treaty, and it introduces them in a way that is compatible with today’s life needs in order to link the benefits of this great treaty to the current requirements of the nation. The findings of the research can be useful to the readers; for example, it is permissible for Muslims who do not intend to perform the pilgrimage (Haj) to perform ʿUmrah during the months of pilgrimage.

نقاط رئيسية

وإن منهجی فی هذه الدراسة یقوم على أن السیرة النبویة قد حظیت باهتمام العلماء لما تحویه من فوائد دعویة بل کلها دعوة إلى الله تعالى ، فصنفوا فیها الأسفار ، وحققوا مصادرها فی مصنفات عدیدة ، وبینوا ما صح منها وما ضعف من الروایات ، وبیًن بعضهم اختلاف الروایات للحدث الواحد ، فقد استفدت من ذلک الجهد العظیم ، واکتفیت بالنص الواحد إذا تعددت الروایات .

واجتهدت فی إیراد النص من مصدره الأصلی کما هو ، ثم أحلل هذا النص إذا احتاج إلى ذلک مع بیان فوائده وتطبیقاته .

وبالتالی لم أکثر من ذکر الروایات ، بقدر ما أنظر فی الروایة من فوائد وعبر ومواعظ ، فأستجلیها وأقدمها بما یتوافق مع حاجات الیوم بُغیة الربط بین السیرة النبویة وحاجات أبناء الأمة التی تتجدد فی صور متقاربة حسب الأزمان ، ولم یستوعب هذا البحث کل دقائق وتفاصیل السیرة النبویة من الشمائل والأحکام وغیرها ، بل هو قطف متدرج بحیث یجد القارئ الملامح العامة للسیرة النبویة العطرة التی اعتاد أن یقرأها فی کتب السیرة .

ومما قمت به عزو النصوص والشواهد إلى مصادرها الأصلیة ، وکذلک عزو الآیات القرآنیة إلى مکانها من المصحف الشریف ، والأحادیث النبویة إلى مصادرها من کتب السنة .

الکلمات المفتاحیة :

1/ الفوائد : وهی مجموع الفائدة التی استخرجت من البحث .

2/ الدعویة : من الدعوة إلى الله تعالى .

3/ المستنبطة : أی المستخرجة من البحث بطریقة الاستنباط .

4/ الصلح : هو ما تصالح علیه النبی r مع قریش .

5/ الحدیبیة : مکان قریب من مکة المکرمة حیث وقع الصلح

سبب اختیار الموضوع:

کشف وبیان الفوائد التی تستفید منها الأمة الإسلامیة من صلح الحدیبیة.

منهج البحث:

اعتمد الباحث على المنهج الوصفی، هذا بجانب المنهج التحلیلی أحیاناً، وایراد النص من مصدره الأصلی وعزو النصوص والشواهد إلى مصادرها الأصلیة .

خطة البحث:

اشتمل البحث على مقدمة وخمسة مباحث وخاتمة.

المبحث الأول: مفهوم الفوائد فی اللغة والاصطلاح .

أولاً: مفهوم الفوائد لغة .         

ثانیاً: مفهوم الفوائد اصطلاحاً.

المبحث الثانی : الفوائد المستنبطة من إرادة النبی r لأداء العمرة .

المبحث الثالث : الفوائد المستنبطة من تحرک النبی r للعمرة .

المبحث الرابع : الفوائد المستنبطة من نزول النبی r بالحدیبیة ومشاورة أصحابه .

المبحث الخامس : الفوائد المستنبطة من عقد الصلح مع قریش .

الخاتمة : وبها النتائج والتوصیات .

ثبت بالمصادر والمراجع .

الكلمات الرئيسية


المبحث الأول

 مفهوم الفوائد فی اللغة والاصطلاح

الفائدة : ما أفاد الله تعالى العبد من خیر یستفیده ویستحدثه ، وجمعها  فوائد .

یقال إنهما لیتفایدان بالمال بینهما : أی یفید کل واحد منهما صاحبه . والناس یقولون : هما یتفاودان العلم : أی یفید کل واحد منهما الآخر .

والفائدة ما استفدت من علم أو مال ، تقول منه : فادت له فائدة . أفدت المال : أی أعطیته غیری . وأفدته : استفدته . وفاد المال نفسه لفلان : یفید إذا ثبت له مال .

والاسم الفائدة . وفی حدیث ابن عباس رضی الله عنهما فی الرجل یستفید المال بطریق الربح أو غیره ، قال : یزکیه یوم یستفیده : أی یوم یملکه .

وهذا لعله مذهب له ، وإلا فلا قائل به من الفقهاء إلا أن یکون للرجل مال قد حال علیه الحول ، واستفاد قبل وجوب الزکاة فیه مالاً ، فیضیفه إلیه ویجعل حولهما واحداً ویزکی الجمیع . وهو مذهب أبی حنیفة وغیره(1) .

ونقول فادت لفلان فائدة فیداً : حصلت له هذه الفائدة . والمال لفلان : ثبت له ، وفلان : تبختر .

أفاد فلان علماً أو مالاً : اکتسبه ، یقال : أفاد منه مالاً أو علماً : أی اکتسبه إیاه .

وتفایدا بالمال أو العلم : أفاد کل واحد منهما صاحبه . والفائدة : ما یستفاد من علم أو مال أی ربح المال فی زمن محدد بسعر محدد وتسمى فوائد(2) .

فاد فیداً : المال له : ثبت وقیل ذهب . وفادت له فائدة : أی حصلت له هذه الفائدة . وأفاد إفادة : الرجل ، علماً أو مالاً : أعطاه إیاه ([1]).

واستفاد منه علماً أو مالاً : أخذ منه واکتسبه . وتفاید القوم بالمال : أفاد کل واحد منهما صاحبه . والفائدة : الزیادة تحصل للإنسان ([2]).

      ومن هذه التعاریف اللغویة السابقة الذکر ، نخلص إلى أن الفائدة وجمعها فوائد . هی ما یستفید منه الإنسان فی حیاته من زیادة فی العلم أو المال ینتفع به .


المبحث الثانی

الفوائد الدعویة المستنبطة من إرادة النبی r لأداء العمرة :

من حق أی إنسان مسلم أن یزور بیت الله الحرام ، ویطوف به ، وفی قدیم الزمان قالوا من حق أی عربی أن یزور البیت ویطوف به ، ولکن قریشاً تفکر بطریقة مختلفة ، فهی لا تنظر إلیه حقاً من حقوق خصمها ، الذی یجب علیها أن تؤمن له الحمایة مادام على أرضها ، وهذه من صفات قریش الکریمة العتیدة المحسوبة لها ، لکنها تنظر إلى عمرة النبی r على أنها هزیمة یلحقها محمد r وأصحابه بها کسابقاتها([3]).

کیف یطوف هو وأصحابه وقد طردوهم بالأمس من مکة ؟ کیف یأتون مکة دون إذن قریش ؟ أین مکانة قریش وأصنامها ؟ .

سؤال ضاقت به مکة ، أما الرسول r فلم یبالی برأی قریش ، لقد أراه الله تعالى فی منامه رؤیا ، ورؤیا الأنبیاء وحی ، وقد قص النبی r على أصحابه تلک الرؤیا ، وبشرهم بأنهم یطوفون ببیت الله الحرام بعد طول غیاب عنه .

یقول عمر بن الخطاب رضی الله عنه : أن النبی r : ( کان یحدثنا أنا سنأتی البیت ونطوف به ) ([4]). فتهللت وجوه الصحابة وأفرحهم الخبر ، وأعدوا للسفر عدته([5]).

وفی ذی القعدة من سنة ست للهجرة خرج النبی r وأصحابه للعمرة . ولذا سمیت هذه العمرة بعمرة الحدیبیة .

والحدیبیة اسم بئر تقع على بعد اثنین وعشرین کیلاً إلى الشمال الغربی من مکة المکرمة ، وتعرف بالشمیسی([6]).

وکان خروجه r لیس بهدف القتال وإنما للعمرة کما جاء عنه r فی الحدیث (.....إنا لم نجیء لقتال أحد ولکن جئنا معتمرین .....) ([7]).

وبالرغم من هذا الهدف غیر القتالی إلا أن خروجهم فیه من الفوائد أنه مزید من الإعلان بأن هذا الدین یُعَظّم شعائر الله تعالى ، وستعلم العرب بما صار علیه المسلمون من القوة التی تمکنهم من القدوم إلى مکة معتمرین ، غیر آبهین بقوة قریش ، بل إن فی ذلک کسر لتمرد کفار قریش وإعلان ضعفها من قبل المسلمین([8]).

ومن الفوائد أیضاً أن الدولة المسلمة المضطهدة یلزمها الصبر أولاً ، وإعزاز قوتها ومکوناتها ثانیاً ، وأن لا تبادر بإثارة أعدائها علیها ، وأن الحکمة مطلب فی التعامل مع الأحداث ، وأن الأخذ بسنن الله تعالى مطلب یلزم الأخذ به ، کما أخذ به النبی r ([9]).

ومن الفوائد أیضاً أن توجه النبی r إلى مکة مع أصحابه کشفت الکثیر من الأمور على ساحة الصراع ، وأوضحت للعرب مدى صحة الدین الجدید وبطلان السیاسة التی تتخذها زعامة قریش من هذا الدین ، وبذلک بدأت مواقف القبائل العربیة تأخذ شکلاً جدیداً ، فتح الطریق أمام دخول العرب فی دین الإسلام([10]).

ولما أراد النبی r التحرک نادى فی أصحابه ودعا الأعراب المتناثرین حول المدینة المنورة لمصاحبته ، لما فی هذه الدعوة من فائدة لعل هذه العمرة تذیب ما ببعضهم من جلافة وجفاء . ولکن بعض الأعراب تصحر من رأسه حتى أخمص قدمیه ، فهم یتلهفون للنهب والسلب والغنیمة الباردة ، وبعضهم وإن ادعوا الإسلام إلا أن أرقام قریش مازالت تخیفهم ، وحشود الأحزاب مازالت فی نظرهم تکمن خلف الأکمات والهضاب . أما نصر الله ووعده والثقة برسول الله r ووحی الله له فلا رصید لها فی تلک النفوس المتکلسة([11]).

ولقد ظنوا أن قریش ستفنی النبی r وأصحابه ، فلا داعی للمجازفة فی معرکة معروفة النتائج سلفاً ، ولذا فقد ادعوا أنهم مشغولون بأموالهم وأهلیهم وشؤون دنیاهم ، ولکن الوحی نزل بفضح سوء ظنهم بالله ورسوله . ویعری حقیقتهم ویکشف عارهم .

         ویقول العلیم الخبیر : ﭧﭐﭨ   ﱡﭐﭐ ﱝ ﱞ ﱟ  ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ  ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ  ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ  ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ﲘ ﲚ ﱠ الفتح: ١١ - ١٢

آیات عظیمات تخترق أعذار بعض الأعراب الواهیة لتنزع منها جبنهم وأسرار تخلفهم ولابد أن المنافقین شارکوهم الرأی والتخلف ، ولذا لم یلح النبی r علیهم فلا خیر فیهم ولافی صحبتهم([12]).

وقد کشف الله تعالى مکنون انفسهم ، وما کانوا علیه من سوء الظن بربهم سبحانه ، وبنبیه r وبالنتیجة التی سیؤول لها أمر الرسول r وأصحابه رضی الله عنهم أجمعین .

فمن الفوائد أن ما ظنه الأعراب یفید أن استقراء الواقع فی معزل عن سنن الله تعالى الکونیة والشرعیة ، مع عدم ربط ذلک بقدرة الله تعالى وقدره ، یعطی نتائج مغلوطة وخاطئة ، کما یفید خبر الأعراب أن ضعف الإیمان یجعل المرء لا یثبت على مبادئه ویدافع عنها ، بل تلعب به الأهواء والعواصف کیفما اتجهت وتحولت . کما أن التبریر الذی یقبله الناس نتیجة محدودیة علمهم الدنیوی فقط ، دون ربطه بالجانب الشرعی یُحدث شرخاً عظیماً فی الاستقراء العلمی ، ثم فی نتائج ذلک . کما أن التبریرات النفسیة وإظهار عکس ما یبطن المرء لا یخفى على الله تعالى وإن خفی عن الناس ، فلیعلم الإنسان أنه لا لأحد یستطیع أن یدفع ما أراده الله تعالى من نفع أو ضُرّ أراده الله قدراً وشرعاً([13]).

 

المبحث الثالث

الفوائد الدعویة المستنبطة من تحرک النبی r للعمرة

 ( خرج النبی r عام الحدیبیة فی بضع عشرة مائة من أصحابه . فلما أتى ذا الحلیفة قلّد الهدی وأشعره ، وأحرم منها بعمرة ، وبعث عیناً له من خزاعة .....) ([14]).    

 من الفوائد المستنبطة من تحرک رسول الله r للعمرة ، نتبین مدى أهمیة أخذ الحیطة والحذر لأن النبی r بعث عیناً له قبل أن یتحرک حتى یستجلی الطریق ویعرف ما تخبئه له قریش ، لذا أرسل بشر بن سفیان الخزاعی لهذه المهمة([15]).

 فإن رسول الله r یأخذ بالأسباب ، ویأخذ بسنن الله تعالى التی یلزم المسلم العنایة بها ، وأن لا یکون متواکلاً . وبعد أن علم النبی r تحرک قریش وعزمها بصده من البیت استشار أصحابه ، وکان النبی r کثیراً ما یستشیر أصحابه ، فقال فی هذا الموقف : ( .... أشیروا علًی أیها الناس ، أترون أن أمیل إلى عیالم وذراری هؤلاء الذین یریدون أن یصدونا عن البیت ؟ فإن یأتونا کان الله عز وجل قطع عیناً من المشرکین ، وإلا ترکناهم محروبین ، فقال أبو بکر : یا رسول الله خرجت عامداً لهذا البیت لا ترید قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه . قال : أمضوا على اسم الله ) ([16]). فسلک بهم رسول الله r طریقاً آخر .

 ویظهر من هذا الموقف فوائد عدیدة ، منها أهمیة اتخاذ المسلک المناسب فی الوقت المناسب ، وأن مقاتلة العدو لیست فی کل وقت شجاعة وحنکة ، بل ربما توخیه عین الحکمة والسیاسة افضل .

 ومن الفوائد أن على المسلم أن یتخذ لنفسه ولغیره طریق السلامة ، وإن کانت شاقة ، کما أن مسار الحیاة والدعوة فیه الکثیر من المشقة .

 ومن الفوائد أیضاً أنه عندما برکت راحلته r وحکم الناس علیها بما رأوا فقالوا : حل حل وهی کلمة تقال إذا ترکت الناقة السیر ، فألحت أی تمادت فی عدم القیام ، قال r  منصفاً لأخلاق ناقته القصواء : ( ما خلأت القصواء وما ذاک لها بخُلُق ولکن حبسها حابس الفیل ) ([17]).

 ومن الفوائد فی هذا الموقف أن للإنسان أن یتحدث بما یعرف وبما إعتاده عن الشیء . وإن خالف حقیقة ما یجهله ، وأن على من له معرفة أن ینبه المتحدث إلى حقیقة الأمر لیصحح حکمه وفهمه .

 وبهذا فلا یوصف الإنسان بما یطرأ على تصرفاته من سلوک حمید أو ذمیم  وإنما العمدة على ما أصبح له سجیة وطبعاً وعادة عُرف بها . وإن کان الخطأ ینسب إلیه ، ولا ینسب هو للخطأ ، وبالتالی لا یوصف به على أنه طبیعة له .         وأما ما یتعلق بتطبیق العقوبات الشرعیة والحکم القضائی ، فیأخذ مجراه وفق شریعة الله تعالى([18]).

ومن الفوائد أن النبی r دفع عن عرض هذه الناقة وهی غیر مکلف ، فمن باب أولى الدفع عن عرض المکلف المصون بأن لا نقول غیبة فی أحد أو نسمعها فی أحد ، وندفع الغیبة ونرد على المغتاب([19]).

ومن الفوائد بعد أن استشار النبی r أصحابه رضی الله عنهم أجمعین قال: ( .... والذی نفسی بیده ، لا یسألونی خُطةً یعظمون فیها حرمات الله إلا أعطیتهم إیاها ....) ([20]). وقد بیّن r لأصحابه فی هذا الموقف مبدأ التعامل مع کفار قریش ، بأنهم لن یسألوه خطة أی خصلة یعظمون فیها حرمات الله تعالى ، من ترک للقتال فی الحرم إلا أجابهم إلیها ، وهذا من تعظیمه r للبیت الحرام ولحرمات الله تعالى ، وهذه فائدة فی تقریر المبدأ النبوی فی التعامل .

  فإذا کان هذا التعظیم یتوقع حدوثه من کفار قریش فالفائدة هنا تکمن فی أن المسلم هو أدعى لتعظیم هذا البیت من غیره وفی کل وقت وحین ، خاصة عندما یأمره بذلک القائمون على الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر من المسلمین  وأن لا یتعامل معهم بسوء أدب ، أو جفاء ، فکما عظّم النبی r ما یمکن أن یصدر من کفار قریش حیال تعظیم الحرم ، فإن فی صدور ذلک من المسلم حتماً أولى([21]).

لقد کان من حکمة النبی r أن تحول عن طریق خیالة قریش حتى یتجنب القتال معهم من جهة ، ویرجعوا على مکة من جهة أخرى ، فیؤخر القتال ویترک مجالاً للتفاوض ویؤکد لهم أنه لم یخرج یرید الحرب وإنما خرج محرماً یرید العمرة .

وفائدة هذا تدل على أهمیة دراسة الواقع ووضعه فی مکانه ونصابه ، کما أنه کلما أمکن التفاوض مع الخصم والوصول إلى الهدف بطریق السلم أفضل من التحرک إلى المواجهة العسکریة([22]).

وفائدة أخرى تدل على أن کل من التمس المعاونة على ما یرضی الله تعالى وعلى تعظیم حرماته سبحانه أجیب إلى ذلک کائناً من کان ، ما لم یترتب على ذلک مبغوض لله أعظم منه([23]).

وهذا یرد على من یتهمون الإسلام بأنه دین حرب وسفک دم الأبریاء . إذ هذا رسول الله r یفتح جمیع الأبواب الموصلة إلى صلة الرحم والحفاظ على أرواح الأبریاء والتفاوض مع الخصم للوصول إلى الهدف مع عدم إبداء أی تنازل عن مبدأ الدعوة .

 

 

 


المبحث الرابع

 الفوائد الدعویة المستنبطة من نزول النبی r

بالحدیبیة ومشاورة أصحابه فی ذلک

نزل النبی r بأقصى الحدیبیة على ثمد قلیل الماء یتبرضه الناس تبرضاً ، فلم یُلبثه الناس حتى نزحوه ، وشکى الناس إلى رسول الله r العطش ، فانتزع سهماً من کنانته ثم أمرهم أن یجعلوه فیه ، فوالله مازال یجیش لهم بالری حتى صدروا عنه ....) ([24]).

یوضح هذا المشهد من الحدیث ما کان من نزولهم الحدیبیة ، على ثمد أی حفرة فیها ماء مثمود - أی قلیل – فیأخذ الناس قلیلاً قلیلاً وهو معنى یتبرضه . فلم یترکه الناس إلا وقد انتهى من نزحهم له . 

وهذه مشکلة قد واجهت المسلمین فی هذا الموقع ، مما یدل على أن المؤمن مهما قوی إیمانه ، ومهما کان صلاحه فإنه معرض للابتلاء ، فلیس هناک خیر من رسول الله r یواجه قلة الماء ، بل انتهاء الماء من مصدره ولکن لطف الله وعنایته وولایته تحف عباده المؤمنین([25]).

وبمتابعة أحداث أمر نزول النبی r بالحدیبیة من الحدیث السابق الذکر یأتی موقف التفاوض حیث جاء فی الحدیث .. ( .... فبینما هم کذلک إذ جاء بدیل ابن ورقاء الخزاعی فی نفر من قومه خزاعة ، وکانوا عیبة نصح رسول الله r من أهل تهامة – فقال : إنی ترکت کعب بن لؤی وعامر بن لؤی نزلوا أعداد میاه الحدیبیة ومعهم العوذ والمطافیل وهم مقاتلوک وصادوک عن البیت . فقال النبی r : ( إنا لم نجیء لقتال أحد ، ولکنا جئنا معتمرین ....) ([26]).

ویبین هذا المقطع من الحدیث مکانة قبیلة خزاعة من رسول الله r فهم عیبة رسول الله r - أی أنهم موضع النصح له والأمانة على سره – والعیبة : ما توضع فیه الثیاب لحفظها .

ویستفاد من ذلک جواز استنصاح بعض المعاهدین وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإیثارهم أهل الإسلام على غیرهم ولو کانوا من أهل دینهم .

ومن الفوائد جواز استنصاح بعض ملوک العدو استظهاراً على غیرهم ،             ولا یعد ذلک من موالاة الکفار ولا موالاة أعداء الله ، بل من قبیل استخدامهم وتقلیل شوکة جمعهم ، وإنکاء بعضهم البعض ، ولا یلزم من ذلک جواز الاستعانة بالمشرکین على الإطلاق([27]).

ومن الفوائد أیضاً ما یدل على أن کل ما التمس المعاونة على ما یرضی الله تعالى ورسوله r وتعظیم حرماته سبحانه أجیب إلى ذلک کائناً من کان ما لم یترتب على ذلک مبغوض لله أعظم منه([28]).

وقد نصح بدیل ومن معه لرسول الله r وأخبروه بما کان من أمر قریش بأنهم تجمعوا فی الحدیبیة واستحوذوا على أماکن المیاه ، وقوله نزلوا أعداد میاه الحدیبیة أی الماء الذی لا انقطاع له . وأن معهم ذوات الألبان من الإبل لیتزودوا بألبانها ، ولا یرجعوا حتى یمنعوه r ، وهو ما عبر عنه بقوله : زمعهم العوذ المطافیل . فالعوذ الناقة ذات اللبن ، والمطافیل : الأمهات الاتی معها أطفالها . 

وإزاء هذا التجمهر من کفار قریش یبین r أنه لم یأت لقتال ، وإنما جاء واصحابه لیعتمروا ، ثم یبین علیه أفضل الصلاة والسلام لبدیل بن ورقاء ما لحق بقریش من الحرب إزاء تعنت مشرکیها ، وما یقترحه علیهم من خیر الرأی النبوی الکریم ، فیقول علیه أفضل الصلاة والسلام : (( .... وإن قریشاً قد نهکتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ویخلو بینی وبین الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن یدخلوا فیما دخل فیه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذی نفسی بیده لأقاتلنهم على أمری هذا حتى تنفرد سالفتی ولینفذن الله أمره ....)) ([29]).

لقد بین رسول الله r أثر الحرب على قریش وما صنعت بهم ، بما یستثیر عقولهم من غفلتها ، عن ما لحق بهم من هلاک لرجالهم دون اعتبار ، وفی هذا دلیل حرصه r على حفظ الدماء حتى لأعداء الإسلام ، مالم یدخلوا معه فی حرب ، أو یکیدوا لدین الله تعالى ، وهذا یفید ویوضح ویؤکد أهمیة عنایة الإسلام بالدماء وصیانتها وحفظها ، ما کان لذلک سبیلاً .

ومن هنا یظهر الأسلوب التفاوضی المملوء بالحق وتنبیه الغافل عن سجایا الإسلام وهدیه ، وهذا ما أکده عقلاء کفار قریش عندما سمعوا مقالة رسول الله r هذه .

وقد خیرهم رسول الله r فإن شاءوا ماددهم . أی جعل بینه وبینهم مدة من الزمن تتوقف فیها الحرب . وهنا سیحصل أحد أمرین : إما أن یظهر غیره علیه ، فکفاهم المؤنة وإما أن یظهر النبی r ، فإن شاءوا دخلوا فی دین الله تعالى ، وإلا فلا تنقضی مدة الصلح إلا وقد جموا أی استراحوا وتقووا .

وردد الأمر r مع أنه جازم بأن الله تعالى سینصره ویظهره ، لوعد الله تعالى له بذلک ، على طریق التنزل مع الخصم ، وفرض الأمر على ما زعم الخصم([30]).

والفوائد التی نجنیها من هذا الأسلوب أن یُنزل المتفاوض الاحتمالات المتوقعة للعدو جمیعها ، لیریه الإنصاف ، ولیبین له العدل فی الکلام أولاً . ولیرى الله من نفسه أنه تحت مشیئته سبحانه وتعالى ثانیاً .

ومن الفوائد أیضاً أهمیة التحدث بما یدرکه المقابل ویستوعبه ، ثم یختم عرضه بما یبین عزمه وقوته وشجاعته وثقته فی الله تعالى([31]).

ویتبین من هذا کله أن النبی r لا یرید منهم سوى الإسلام ، وأن مقاتلته ومحاربته لهم لیس على سبیل حب النصر والاستحواذ على الأموال ، أو المکانة ، وإنما لأجل هذا الدین فقط .

والفائدة من ذلک بیان أهمیة الإخلاص لله تعالى فی العمل حتى وإن کانت على أبواب ذلک العمل تحقق خیر الدنیا والآخرة . فلا ینظر إلا ما کان لله تعالى ، ولذلک لم یستکثر r من الأموال وجمعها ، وکذلک من زخرف الدنیا ومتاعها ، وقد جاءه من الخیر ما یجعله کذلک ، ولکنه ما حفظ لنفسه أموالاً ولا ظهر على محیاه حب الوجاهة ، فما أحرى ذوی المناصب الاجتماعیة بهذا المسلک النبوی العظیم([32]).

بعد أن سمع بدیل بن ورقاء المشورة من رسول الله r عزم على أن یذهب بها إلى قریش . فقال بدیل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قریشاً . قال : إنا جئناکم من هذا الرجل ، وسمعناه یقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه علیکم فعلنا . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشیء . وقال ذوو الرأی منهم : هات ما سمعته یقول . فقال : سمعته یقول کذا وکذا ، فحدثهم بما قال النبی r ...) ([33]).

لقد استخدم بدیل أسلوب التشویق فی عرض مقالة رسول الله r فلم یبادرهم بها ، وإنما أفادهم بأنه قدم على رسول الله r وسمع منه عرضاً یعرضه علیهم ، إن  اشتهوا سماعه ومعرفته ، وکذلک فی هذا الأسلوب من بدیل التقدیر لهم ، وهذا أدعى لسماعهم بحکمه . مما یوضح أهمیة تقدیر المخاطب مهما کانت البغضاء له ، حتى یسمع ویستوعب المقال . وهذا من الحنکة السیاسیة التفاوضیة والتی لها أثر بالغ وفاعل فی تحقیق المقصد المراد([34]).

ومن الملاحظ أیضاً فی مثل هذه المواقف أن سفهاء القوم أیاً کانوا یبادرون مجالسهم بالحدیث ، ولکن لا حظ لهم دائماً فی صواب الکلام والرأی . وفیه أیضاً لا یلزم إذا بادر أحد برأی خاطئ أو ضعیف أن یستسلم له العقلاء . وعلى المبلغ أن لا ینزعج إذا رد کلامه ابتداءً ، بل یتأنى حتى یؤدی رسالته([35]).

ثم أتى قریشاً بعد بدیل بن ورقاء الخزاعی ، بشر بن سفیان وقال لهم نحو ما قاله بدیل ، ولکنهم قالوا لهم : إن کان جاء لا یرید قتالاً ، فوالله لا یدخلها علینا عنوةً أبداً . ولا تحدث بذلک عنا العرب([36]).

ثم بعثوا إلیه مکرز بن حفص بن الأخیف ، فلما رآه رسول الله r مقبلاً قال لأصحابه : ( هذا رجل غادر ) .

ثم بعثوا إلیه الحلیس بن علقمة ، فلما رآه رسول الله r قال : ( إن هذا من قوم یتألهون([37])، فابعثوا الهدی فی وجهه حتى یراه ) . فلما رأى الهدی یسیل علیه من عرض الوادی رجع إلى قریش ولم یصل إلى رسول الله r إعظاماً لما رأى([38]).

وهنا تتجلى الفائدة فی حکمة رسول الله r وحنکته کقائد حیث عرف الرسل الذین یأتونه ، وما ینبغی أن یظهره لکل منهم ، حتى ینقلوا الصورة التی یریدها لمن أرسلهم ، فالأول مع غدره والآخر مع تألهه کلهم نقل أن النبی r  لم یأت لقتال وإنما جاء للعمرة .

ومن الفوائد هنا ینبغی للدعاة أن یکون مظهرهم یدل على ما یریدون من دعوة الناس للخیر على اختلاف أصنافهم ، ویظهروا للمدعوین ما یناسب حالهم من محاسن الإسلام لیرغبوا فی الدخول فیه([39]).

بعد أن جاء لهم هؤلاء الرسل بما قاله رسول الله r قام أحد عقلائهم وهو عروة بن مسعود فقال : " أی قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا بلى . قال : أو لست بالولد ؟ قالوا بلى . قال : فهل تستهمونی ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أنی استنفرت أهل عکاظ ، فلما لحقوا علّی جئتکم بأهلی وولدی ومن أطاعنی ؟ قالوا : بلى ....." ([40]).

والفائدة من هذا الحدیث أن الأسلوب الخطابی من عروة بن مسعود الثقفی ، یبین أهمیة تقریر إخلاص الناصح إذا ظن أنه قد یُفهم فهماً خاطئاً ، أو أن لا یدرک مبلغ کلامه ورأیه ، خاصة وأنه قد سبقه من یعارض مبدأ الاستماع ، فضلاً عن قبول محتواه . وهذا یدلل على أن العرب کانت قدیماً تفطن لمنهجیة التعلیم ، والاستثارة البلاغیة والکلامیة ، لیبلغ الکلام مبلغه ، ولا ریب أن ینزل القرآن الکریم بهذه اللغة العظیمة على أناس بلغوا شأواً بعیداً فی مضمار الخطاب اللسانی ، فجاء القرآن الکریم بما هو أعظم وأجمل مما وصلوا إلیه([41]).

وبعد هذا الکلام المثیر من عروة بن مسعود الثقفی ، قال عن عرض رسول الله r لهم " ..... إن هذا قد عرض علیکم خطة رشد أقبلوها ودعونی آتیه ، قالوا إئته فأتاه ....." ([42]).

وهذا الأسلوب اللفظی البارع استطاع أن یجمع رأی قریش على رأی واحد  وهو أن یذهب إلى رسول الله r .

من الفوائد أیضاً والتی تظهر من وصفه لرأی رسول الله r قوة وعدل رسول الله r فی حکمه وتعامله ، حتى أن عدوه وصف رایه r بأنه خطة رشد  وفی هذا أهمیة العدل فی الرأی وما یحتویه من إنصاف حتى یقبله الطرف الآخر  وهو من الحکمة التی لا تتجاهل فهم وإدراک الطرف الآخر ، خاصة وأن رسول الله r یدرک أن الله تعالى ناصره ، عندما قال فی تمام کلامه r لبدیل بن ورقاء : ( لینفذن الله أمره ) . ومع ذلک وضعهم أمام الاحتمالات التی یتوقعونها([43]).

 

 

 

 

 


المبحث الخامس

 الفوائد الدعویة المستنبطة من عقد الصلح مع قریش

جاء سهیل بن عمرو إلى النبی r مرسل من قریش لیفاوضه فی الأمر ویملی علیه شروط قریش ، فلما رآه النبی r قال لأصحابه : ( قد سهل لکم من أمرکم ... ) ([44]).

وتتکرر أهمیة معرفة الخصائص البشریة فی مقدم مکرز حیث بین النبی r ما علیه الرجل أنه غادر . وتتأکد کذلک فی مقدم سهیل بن عمرو ، التفاؤل باسمه لما یتضمنه الاسم من السهولة . وکان کما قال النبی r فکتبت المعاهدة على نحو المجریات التالیة :

(..... قال الزهری فی حدیثه : فجاء سهیل بن عمرو فقال : هات أکتب بیننا وبینکم کتاباً ، فدعا النبی r الکاتب ، وکان علی بن ابی طالب رضی الله عنه . فقال النبی r : ( أکتب بسم الله الرحمن الرحیم ) ، فقال سهیل : أما الرحمن فوالله ما أدری ما هی ، ولکن اکتب بسمک اللهم . کما کنت تکتب ، فقال المسلمون : والله لا نکتبها إلا بسم الله الرحمن الرحیم ، فقال النبی r : ( أکتب بسمک اللهم ) ثم قال : ( هذا ما قاضى علیه محمد رسول الله ) ، فقال سهیل : والله لو کنا نعلم أنک رسول الله ما صددناک عن البیت ولا قاتلناک ، ولکن أکتب محمد بن عبد الله . فقال النبی r : ( والله إنی لرسول الله وإن کذبتمونی ، أکتب محمد بن عبد الله ) . وذلک لقوله r : ( لا یسألوننی خطة یعظمون فیها حرمات الله إلا أعطیتهم إیاها ) . فقال النبی r : ( على أن تخلوا بیننا وبین البیت فنطوف به ) . فقال سهیل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغطة ولکن ذلک من العام المقبل ، فکتب ، فقال سهیل : على أنه لا یأتیک منا رجل – وإن کان على دینک – إلا رددته إلینا . قال المسلمون : سبحان الله کیف یرد إلى المشرکین وقد جاء مسلماً ، فبینما هم کذلک إذ دخل علیهم أبو جندل بن سهیل بن عمرو یرسف فی قیوده ، وقد خرج من أسفل مکة حتى رمى بنفسه بین أظهر المسلمین  فلما رآه سهیل بن عمرو قال : هذا یا محمد أول من أقاضیک علیه ، أن ترده إلّی . فقال النبی r إنا لم نقض الکتاب بعد . قال : فوالله إذاً لم أصالحک على شیء أبداً . قال النبی r : فأجزه لی . قال : ما أنا بمجیزه لک . وقال أبو جندل : یا معشر المسلمین أُرد إلى المشرکین وقد جئت مسلماً ؟ ألا ترون ما قد لقیت – وکان قد عذب عذاباً شدیداً فی الله ....) ([45]).

ویتبین من هذا المقطع التفاوضی مقصد الرسول r السلمی ، وحقنه للدماء ، ریثما تفکر قریش فی أمرها ، فربما یؤوب المشرکون إلى رشدهم .

کما یتبین التزامه r بما تعاهد علیه مع الخصوم([46]). ویستفاد من هذا أهمیة السعی لحفظ الدماء ما کان لذلک سبیلا ، وکذلک حفظ العهود والمواثیق ، وأن الحرب فی الإسلام لیست مطلوبة لذاتها أو لأخذ الناس بالباطل ، أو للاستحواذ على مقدراتهم .

ومما یؤکد عنایة الإسلام بحقن الدماء ما جاء فی الحدیث الذی رواه مسلم رحمة الله تعالى علیه ، عن أنس رضی الله عنه : (( أن ثمانین رجلاً من أهل مکة هبطوا على رسول الله r من جبل التنعیم متسلحین ، یریدون غِرّة النبـی ـ صلى الله علیه وسلم ـ وأصحابه ، فأخذهم سلماً فاستحیاهم . فأنزل الله عز وجل : ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ ([47])ﱠ الفتح:٢٤

وکرر المحاولة ثلاثون شاباً علیهم السلاح أثناء إبرام الصلح فخلى سبیلهم r ([48])

وفی روایة أخرى یظهر موقف أدبی رائع وعظیم من علی بن ابی طالب کرم الله وجهه ورضی عنه ، قد جاء فی صحیح مسلم : ( کتب علی بن أبی طالب الصلح بین النبی r وبین سهیل بن عمرو الذی یمثل المشرکین یوم الحدیبیة ، فکتب : هذا ما کاتب علیه محمد رسول الله . فقال سهیل : لا تکتب رسول الله ، فلو نعلم أنک رسول الله لم نقاتلک . فقال رسول الله لعلی : أمحه . فقال علی : ما أنا بالذی أمحاه . فمحاه النبی r بیده ....) ([49]). وفی روایة أخرى قال النبی r : ( أرنی مکانها ، فأراه مکانها فمحاها ) .

ومن هنا نرى مکانة النبی r فی نفس علی کرم الله وجهه ، إذ لم تجرؤ أن تمتد یده لتمحو لفظ رسول الله r، وهذا دلیل على فطنته وحکمته رضی الله عنه ، وانتباهه وهو فی حالة کاتب بین متفاوضین .

والموقف لیس بالیسیر ، رضی الله عنه لقد علم من بعده درساً فی تعظیم لفظ رسول الله r وهو دلیل على تعظیم صاحبه علیه أفضل الصلاة والسلام ، وتعظیم الله جل جلاله بتعظیم نبیه ورسوله r ، ولیس فی هذا عصیاناً منه رضی الله عنه بل إجلالاً وتکریماً .

ثم إن بنود هذا التفاوض قد أذهلت المسلمین ، ( قال المسلمون : سبحان الله کیف یرد إلى المشرکین من جاء مسلماً ) . قال ابن هشام : دخل على الناس من ذلک أمر عظیم حتى کادوا یهلکون . وقد أذهل ذلک عمر بن الخطاب رضی الله عنه : ( ...... قال : أتیت النبی r فقلت : ألست نبی الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطی الدنیة فی دیننا إذاً ؟ قال : إنی رسول الله ولست أعصیه ، وهو ناصری . قلت : أو لیس کنت تحدثنا أنا سنأتی البیت فنطوف به ؟ قال : بلى . فأخبرتک أنا نأتیه العام؟ قال : قلت : لا . قال : فإنک آتیه ومطوف به . قال : فأتیت أبا بکر فقلت : یا أبا بکر ، ألیس هذا نبی الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطی الدنیة فی دیننا إذاً ؟ قال : أیها الرجل  إنه رسول الله r ولیس یعصی ربه ، وهو ناصره ، فاستمسک بغرزه([50]). فو الله إنه على الحق . قلت : ألیس کان یحدثنا أنا سنأتی البیت ونطوف به ؟ قال : بلى . أفأخبرک أنک تأتیه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنک آتیه ومطوف به . قال عمر : فعملت لذلک أعمالاً .....) ([51]).

ویستفاد من هذا الکلام جواز البحث فی العلم حتى یظهر المعنى . وأن الکلام یُحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصیص والتقیید ، وأن من حلف على فعل شیء ولم یذکر مدة معینة لم یحنث حتى تنقضی أیام حیاته .

وفی عدم مراجعة عمر بن الخطاب رضی الله عنه غیر أبی بکر رضی الله عنه دلیل على جلالة قدره وسعة علمه عنده ، وفی جواب أبی بکر لعمر بنظیر ما جاء به النبی r سواء ، دلالة على أنه کان أکمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله r وأعلمهم بأمور الدین .

  وهذا القول من النبی r یدل على أن شروط الصلح لم تکن الموافقة علیها باجتهاد النبی r ، وإنما بوحی من الله تعالى . ولذلک لم یکن لعمر ولا لغیر عمر أن یناقش فیما قضاه الله ورسوله r ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ  ﱙ ﱚ ﱠ الأحزاب: ٣٦

وبهذا الصلح برز الفرق واضحاً بین وحی النبوة وتدبیر الفکر البشری  بین توفیق النبی المرسل وتصرف العبقری المفکر ، فقد أراد الله أن ینصر رسوله r أمام بصیرة کل متأمل عاقل([52]).

ویستفاد من قصة عمر بن الخطاب رضی الله عنه ، درس لأتباع الدعوة ، وهو أن علیهم أن یستشرفوا دائماً أبعاد معرکتهم مع عدوهم ، وأن یتفهموا الآراء  تعالى بتحمل المسؤولیة ، فکثیراً ما یصدر الأتباع أحکاماً ظاهرها الصواب وباطنها الخطأ([53]).

 

من الحکم التی تضمنتها هذه الهدنة :-

-         أنها کانت مقدمة بین یدی فتح مکة ودخول الناس فی دین الله أفواجاً .

-         أن الهدنة فتحت الباب لاختلاط المسلمین بالکفار ومناظرتهم ودعوتهم حتى أسلم خلق کثیر بعد هذه الهدنة .

-         ما سببه الله تعالى للمؤمنین من زیادة الإیمان والإذعان والانقیاد على ما أحبوا وکرهوا ، وما حصل لهم من الرضا بقضاء الله وتصدیق موعوده وانتظار ما وُعِدوا به ، فأنزل الله علیهم من سکینته ما اطمأنت به قلوبهم وقویت به نفوسهم([54]).

ومن سبر أغوار صلح الحدیبیة وخلفیاته لا یشک أنه فتح عظیم ، فلقد جنى منه المسلمون فوائد عدة منها :-

1-  أن قریش لم تکن تعترف بالمسلمین ، ومجرد جنوحها للصلح یمثل اعترافاً منها بقوة المسلمین وأنها لا تقدر على مقاومتهم .

2-  أن قریشاً بهذا الصلح تنازلت ونسیت صدارتها الدنیویة والدینیة ، فلم یعد یهمها إلا نفسها ، فلو دخلت کل القبائل فی الإسلام فلا یهمها ذلک .

3-  اکتسب المسلمون بصلح الحدیبیة حریة کبیرة فی الدعوة إلى الله تعالى فی جزیرة العرب مما ضاعف أعداد المسلمین .

4- لقد کانت قریش هی التی تبدأ المسلمین بالحرب ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ  ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵﲶ  ﲷﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ  ﱠ التوبة: ١٣

  فوضعت الهدنة حداً لها .

5-اشتراط رد من جاء إلى النبی r مسلماً من قریش یظهر مدى خوف قریش من ازدیاد المسلمین ، ولکن الله جعل لهم فرجاً ومخرجاً . فتراجعت قریش عن هذا الشرط لما رأت ضرره علیها .

6-وضع صلح الحدیبیة حداً لهیمنة قریش على الحرم فلم تعد تقدر على منع المسلمین منه فی غیر هذا العام([55]).

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمــة

الحمد لله على ما أتم من نعمة بإتمام هذا العمل الصغیر ، فله الحمد على آلائه ، وأسأله تعالى أن لا یحرمنا أجره ، ولا یبعدنا عن نبیه ، ولا عن دفء ظلاله ، وبرد العیش فی رحابه ، فلقد کانت أیاماً طیبة ، ولحظات قیمه مع خاتم الرسل r .

 وکم تمنیت أن یطول بی المقام فی هذه الساحات الزکیة للاغتراف منها ، ونقل ما أغترف من منابع السیرة النبویة وصلح الحدیبیة خاصة إلى قلمی الضعیف لیخرجها من جدید محمله بمشاعر الإکبار والتقدیر ، منغمسة فی بحر الانبهار الکبیر ، لابسة رداء أسلوبی الخاص ، مغموسة فی قاموسی الشخصی ، لکن حجم البحث الذی أردته أن یکون علیه یکتفی بهذا القدر ، فهذا البحث لیس تأریخاً أو تدویناً لأحداث ، بل هو استنباط لفوائد دعویة ، لذلک لا ضیر من الایجاز ، أو التنقل عبر المواقف وانتقاء بعضها دون بعض .

 ومع ذلک تبقى النفس عامرة بالضیاء الذی اقتبست من أنوار السیرة النبویة ولو لم نذکر کل أحداثها هنا ، فما أعظم ما تنعم به النفس من فخر وإیمان فی ظلال صلح الحدیبیة ، لقد اعترض علیه الصحابة لأنهم قدّروا الأمور بظواهرها ، ولم یطلقوا لأنفسهم مجال التفکر فیما وراءها ، ولو فعلوا لعلموا أنهم إنما یمسکون مفتاح الفتح بتوقیعهم العهد ، لقد صار الصلح میداناً کبیراً لانتشار الدعوة ، إذ أصبح خیراً على المستضعفین فی مکة ، فأمن الناس بعضهم بعضاً ، وصاروا یُظهِرون الشعائر ویتحدثون عن الإسلام حتى إنه کما یُروى : ( لم یُکّلم أحد بالإسلام یعقل شیئاً إلا دخل فیه ، ولقد دخل فی تینک السنتین مثل من کان فی الإسلام قبل ذلک أو أکثر ) . وکان ذلک سبباً فی فتح مکة بعد صلحاً لا قتالاً ، بعد أن سارع کثیر من أهلها إلى الإسلام ، فلم یقاوموه عند الدخول لفتحها .

النتائج : 

1-  استنباط الحِکم والفوائد والأحکام من أحداث السیرة وصلح الحدیبیة .

2-  جمع ما تفرق من استنباطات فی کتب السیرة المشهورة الخاصة بصلح الحدیبیة .

3-  ذکر ما جاء من فوائد دعویة فی بعض کتب شروح الحدیث حول أحداث صلح الحدیبیة .

4-  صلح الحدیبیة کان مقدمة لفتح مکة ودخول الناس فی دین الله أفواجاً .

5-  الصلح فتح الباب أمام المسلمین للاختلاط بالکفار ومناظرتهم ودعوتهم حتى أسلم خلق کثیر .

6-  هذا الصلح وتحمل المسلمین بما فیه من صعوبات یدل صراحة على أن الهدف من الجهاد لیس تقتیل الناس وسفک الدماء ، بل دعوة الناس إلى هذا الدین وتبلیغه إیاهم .

7-  إن هذا الصلح وما جاء فیه یفند دعاء البعض إرهابیة الإسلام ، ویرد علیهم الواقع والمنطق ببطلان ذلک .

التوصیات :

1-  الاتباع الأمثل لمنهج النبی r دون الابتداع ، لأن ما جاء به r من ذاک الزمان وإلى الوقت الحاضر کله حق .

2-  على المسلم التروی وعدم التسرع فی الحکم على الغیر حتى یتبین .

3-  احتمال قلة أدب غیر المسلمین فی التطاول على الإسلام وردهم رداً جمیلاً للمصلحة العامة .

4-  على المسلم استحباب التفاؤل دائماً .

5-  على الإمام أو الأمیر إذا ما اُبتدء بطلب الصلح مع العدو لا یرفض مادام فیه مصلحة المسلمین .

اللهم تقبل منا ، وعلمنا ما جهلنا ، وانفعنا بما علمتنا ، واعف یا رب عن کل تجاوز أو زلل ، فإنما التوفیق منک وبک .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین ... وصلی اللهم على خاتم الأنبیاء والمرسلین وعلى آله وصحبه أجمعین .



(1) لسان العرب / ابن منظور ، (6/3498) .

(2) المعجم الوسیط / مجمع اللغة العربیة ، (2/714) .

([1]) المنجد / معلوف ، ص427.

([2]) المنجد / معلوف ، مرجع سابق ، ص428 .

([3]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، ج3 ، ط3 ، العبیکان  الریاض ، 2009م ، ص120 .

([4])  صحیح البخاری ، البخاری ، حدیث رقم (2731-2732) ، وهو حدیث طویل.

([5])  السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص121.

([6]) الطبقات الکبرى / ابن سعد ، (2/95).

([7]) صحیح البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) ، حدیث رقم 2732.

([8]) السیرة النبویة الصحیحة / أکرم ضیاء العمری ، (2/424)  .

([9]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، ط1 ، دار الزمان  ، المدینة المنورة ، 2006م ، ص375.

([10]) أخلاق الحرب فی السیرة النبویة / مروان شیخ الأرض ، ط1 ، دار غار حراء ، دمشق ، 2008م ، ص225 .

([11])  السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص122.

([12]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص122.

([13]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص376.

([14]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (3/131) ، حدیث رقم 4178 .

([15]) فتح الباری من صحیح البخاری / ابن حجر العسقلانی ، (7/454).

([16]) صحیح البخاری ، مرجع سابق ، (3/131) حدیث رقم 4179.

([17]) المرجع نفسه ،  (2/279) حدیث رقم 2731.

([18]) أصول التربیة الإسلامیة / خالد بن حامد الحازمی ، ص167.

([19]) فقه السیرة / زید بن عند الکریم لزید ، ط8 ، دار التدمریة ، الریاض ، 1432هـ ، ص534.

([20]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2732 .

([21]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص380 .

([22]) بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر ، ط1 ، دار ابن حزم ، بیروت ، 2015م ، ص348 .

([23]) زاد المیعاد فی هدی خیر العباد / ابن القیم ، (3/303)  .

([24]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2731.

([25]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص381.

([26]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2732.

([27]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص382.

([28]) بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر وآخر ، مرجع سابق ، ص349.

([29]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2732.

([30]) فتح الباری من صحیح البخاری / ابن حجر العسقلانی ، مرجع سابق ، (5/338).

([31]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص133.

([32]) فی ظلال السیرة النبویة / مشعل عبد العزیز ، دار القلم ، دمشق ، ط1 ، 2010م ، ص193 .

([33])  صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2731.

([34]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص385 .

([35])  بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر وآخر ، مرجع سابق ، ص351.

([36])  زاد المعاد فی هدی خیر العباد ، ابن القیم ، (3/303).

([37])  یتألهون : أی یتعبدون ویعظمون الله.

([38])  بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر ، مرجع سابق ، ص350.

([39]) السیرة الحلبیة / برهان الدین الحلبی (2/705).

([40]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2732.

([41]) المعین الرائق من سیرة خیر الخلائق / سعید محمد صالح ، ط5 ، 2015م ، دار الفکر ، القاهرة ، ص265.

([42])  صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2731.

([43])  المعین الرائق من سیرة خیر الخلائق / سعید محمد صالح ، مرجع سابق ، ص266.

([44])  السیرة النبویة / ابن هشام ، (3/326).

([45])  صحیح مسلم ، مسلم ، (3 /1442) حدیث رقم 1808.

([46])  الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص395.

([47])  صحیح مسلم ، مسلم ، مرجع سابق ، (4/1442) حدیث رقم 1808.

([48])  مسند الإمام أحمد ، أحمد بن حنبل ، (4/86).

([49])  صحیح مسلم ، مسلم ، مرجع سابق ، (3/1409) حدیث رقم 1783.

([50])  الغرز : بمثابة ومنزلة الرکب للفرس ، وهو کالذی یمسک برکب الفارس فلا یفارقه . الفتح (5/346).

([51])  السیرة النبویة / ابن هشام ، مرجع سابق ، (3/332).

([52])  السیرة النبویة فی ضوء المصادر الأصلیة / محمد سعید رمضان البوطی ، ط6 ، 2012م ، دار السلام ، القاهرة ، ص347.

([53])  الأساس فی السنة / سعید حوی ، ط5 ، 2009م ، دار السلام ، القاهرة ، ج2 ، ص788.

([54])  السیرة النبویة فی ضوء المصادر الأصلیة / البوطی ، مرجع سابق ، ص356.

([55])  الرحیق المختوم / صفی الرحمن المبارکفوری ، ط1 ، 2013م ، دار السلام ، القاهرة ، ص352-354.

المبحث الأول
 مفهوم الفوائد فی اللغة والاصطلاح
الفائدة : ما أفاد الله تعالى العبد من خیر یستفیده ویستحدثه ، وجمعها  فوائد .
یقال إنهما لیتفایدان بالمال بینهما : أی یفید کل واحد منهما صاحبه . والناس یقولون : هما یتفاودان العلم : أی یفید کل واحد منهما الآخر .
والفائدة ما استفدت من علم أو مال ، تقول منه : فادت له فائدة . أفدت المال : أی أعطیته غیری . وأفدته : استفدته . وفاد المال نفسه لفلان : یفید إذا ثبت له مال .
والاسم الفائدة . وفی حدیث ابن عباس رضی الله عنهما فی الرجل یستفید المال بطریق الربح أو غیره ، قال : یزکیه یوم یستفیده : أی یوم یملکه .
وهذا لعله مذهب له ، وإلا فلا قائل به من الفقهاء إلا أن یکون للرجل مال قد حال علیه الحول ، واستفاد قبل وجوب الزکاة فیه مالاً ، فیضیفه إلیه ویجعل حولهما واحداً ویزکی الجمیع . وهو مذهب أبی حنیفة وغیره(1) .
ونقول فادت لفلان فائدة فیداً : حصلت له هذه الفائدة . والمال لفلان : ثبت له ، وفلان : تبختر .
أفاد فلان علماً أو مالاً : اکتسبه ، یقال : أفاد منه مالاً أو علماً : أی اکتسبه إیاه .
وتفایدا بالمال أو العلم : أفاد کل واحد منهما صاحبه . والفائدة : ما یستفاد من علم أو مال أی ربح المال فی زمن محدد بسعر محدد وتسمى فوائد(2) .
فاد فیداً : المال له : ثبت وقیل ذهب . وفادت له فائدة : أی حصلت له هذه الفائدة . وأفاد إفادة : الرجل ، علماً أو مالاً : أعطاه إیاه ([1]).
واستفاد منه علماً أو مالاً : أخذ منه واکتسبه . وتفاید القوم بالمال : أفاد کل واحد منهما صاحبه . والفائدة : الزیادة تحصل للإنسان ([2]).
      ومن هذه التعاریف اللغویة السابقة الذکر ، نخلص إلى أن الفائدة وجمعها فوائد . هی ما یستفید منه الإنسان فی حیاته من زیادة فی العلم أو المال ینتفع به .
المبحث الثانی
الفوائد الدعویة المستنبطة من إرادة النبی r لأداء العمرة :
من حق أی إنسان مسلم أن یزور بیت الله الحرام ، ویطوف به ، وفی قدیم الزمان قالوا من حق أی عربی أن یزور البیت ویطوف به ، ولکن قریشاً تفکر بطریقة مختلفة ، فهی لا تنظر إلیه حقاً من حقوق خصمها ، الذی یجب علیها أن تؤمن له الحمایة مادام على أرضها ، وهذه من صفات قریش الکریمة العتیدة المحسوبة لها ، لکنها تنظر إلى عمرة النبی r على أنها هزیمة یلحقها محمد r وأصحابه بها کسابقاتها([3]).
کیف یطوف هو وأصحابه وقد طردوهم بالأمس من مکة ؟ کیف یأتون مکة دون إذن قریش ؟ أین مکانة قریش وأصنامها ؟ .
سؤال ضاقت به مکة ، أما الرسول r فلم یبالی برأی قریش ، لقد أراه الله تعالى فی منامه رؤیا ، ورؤیا الأنبیاء وحی ، وقد قص النبی r على أصحابه تلک الرؤیا ، وبشرهم بأنهم یطوفون ببیت الله الحرام بعد طول غیاب عنه .
یقول عمر بن الخطاب رضی الله عنه : أن النبی r : ( کان یحدثنا أنا سنأتی البیت ونطوف به ) ([4]). فتهللت وجوه الصحابة وأفرحهم الخبر ، وأعدوا للسفر عدته([5]).
وفی ذی القعدة من سنة ست للهجرة خرج النبی r وأصحابه للعمرة . ولذا سمیت هذه العمرة بعمرة الحدیبیة .
والحدیبیة اسم بئر تقع على بعد اثنین وعشرین کیلاً إلى الشمال الغربی من مکة المکرمة ، وتعرف بالشمیسی([6]).
وکان خروجه r لیس بهدف القتال وإنما للعمرة کما جاء عنه r فی الحدیث (.....إنا لم نجیء لقتال أحد ولکن جئنا معتمرین .....) ([7]).
وبالرغم من هذا الهدف غیر القتالی إلا أن خروجهم فیه من الفوائد أنه مزید من الإعلان بأن هذا الدین یُعَظّم شعائر الله تعالى ، وستعلم العرب بما صار علیه المسلمون من القوة التی تمکنهم من القدوم إلى مکة معتمرین ، غیر آبهین بقوة قریش ، بل إن فی ذلک کسر لتمرد کفار قریش وإعلان ضعفها من قبل المسلمین([8]).
ومن الفوائد أیضاً أن الدولة المسلمة المضطهدة یلزمها الصبر أولاً ، وإعزاز قوتها ومکوناتها ثانیاً ، وأن لا تبادر بإثارة أعدائها علیها ، وأن الحکمة مطلب فی التعامل مع الأحداث ، وأن الأخذ بسنن الله تعالى مطلب یلزم الأخذ به ، کما أخذ به النبی r ([9]).
ومن الفوائد أیضاً أن توجه النبی r إلى مکة مع أصحابه کشفت الکثیر من الأمور على ساحة الصراع ، وأوضحت للعرب مدى صحة الدین الجدید وبطلان السیاسة التی تتخذها زعامة قریش من هذا الدین ، وبذلک بدأت مواقف القبائل العربیة تأخذ شکلاً جدیداً ، فتح الطریق أمام دخول العرب فی دین الإسلام([10]).
ولما أراد النبی r التحرک نادى فی أصحابه ودعا الأعراب المتناثرین حول المدینة المنورة لمصاحبته ، لما فی هذه الدعوة من فائدة لعل هذه العمرة تذیب ما ببعضهم من جلافة وجفاء . ولکن بعض الأعراب تصحر من رأسه حتى أخمص قدمیه ، فهم یتلهفون للنهب والسلب والغنیمة الباردة ، وبعضهم وإن ادعوا الإسلام إلا أن أرقام قریش مازالت تخیفهم ، وحشود الأحزاب مازالت فی نظرهم تکمن خلف الأکمات والهضاب . أما نصر الله ووعده والثقة برسول الله r ووحی الله له فلا رصید لها فی تلک النفوس المتکلسة([11]).
ولقد ظنوا أن قریش ستفنی النبی r وأصحابه ، فلا داعی للمجازفة فی معرکة معروفة النتائج سلفاً ، ولذا فقد ادعوا أنهم مشغولون بأموالهم وأهلیهم وشؤون دنیاهم ، ولکن الوحی نزل بفضح سوء ظنهم بالله ورسوله . ویعری حقیقتهم ویکشف عارهم .
         ویقول العلیم الخبیر : ﭧﭐﭨ   ﱡﭐﭐ ﱝ ﱞ ﱟ  ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ  ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ  ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ  ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ﲘ ﲚ ﱠ الفتح: ١١ - ١٢
آیات عظیمات تخترق أعذار بعض الأعراب الواهیة لتنزع منها جبنهم وأسرار تخلفهم ولابد أن المنافقین شارکوهم الرأی والتخلف ، ولذا لم یلح النبی r علیهم فلا خیر فیهم ولافی صحبتهم([12]).
وقد کشف الله تعالى مکنون انفسهم ، وما کانوا علیه من سوء الظن بربهم سبحانه ، وبنبیه r وبالنتیجة التی سیؤول لها أمر الرسول r وأصحابه رضی الله عنهم أجمعین .
فمن الفوائد أن ما ظنه الأعراب یفید أن استقراء الواقع فی معزل عن سنن الله تعالى الکونیة والشرعیة ، مع عدم ربط ذلک بقدرة الله تعالى وقدره ، یعطی نتائج مغلوطة وخاطئة ، کما یفید خبر الأعراب أن ضعف الإیمان یجعل المرء لا یثبت على مبادئه ویدافع عنها ، بل تلعب به الأهواء والعواصف کیفما اتجهت وتحولت . کما أن التبریر الذی یقبله الناس نتیجة محدودیة علمهم الدنیوی فقط ، دون ربطه بالجانب الشرعی یُحدث شرخاً عظیماً فی الاستقراء العلمی ، ثم فی نتائج ذلک . کما أن التبریرات النفسیة وإظهار عکس ما یبطن المرء لا یخفى على الله تعالى وإن خفی عن الناس ، فلیعلم الإنسان أنه لا لأحد یستطیع أن یدفع ما أراده الله تعالى من نفع أو ضُرّ أراده الله قدراً وشرعاً([13]).
 
المبحث الثالث
الفوائد الدعویة المستنبطة من تحرک النبی r للعمرة
 ( خرج النبی r عام الحدیبیة فی بضع عشرة مائة من أصحابه . فلما أتى ذا الحلیفة قلّد الهدی وأشعره ، وأحرم منها بعمرة ، وبعث عیناً له من خزاعة .....) ([14]).    
 من الفوائد المستنبطة من تحرک رسول الله r للعمرة ، نتبین مدى أهمیة أخذ الحیطة والحذر لأن النبی r بعث عیناً له قبل أن یتحرک حتى یستجلی الطریق ویعرف ما تخبئه له قریش ، لذا أرسل بشر بن سفیان الخزاعی لهذه المهمة([15]).
 فإن رسول الله r یأخذ بالأسباب ، ویأخذ بسنن الله تعالى التی یلزم المسلم العنایة بها ، وأن لا یکون متواکلاً . وبعد أن علم النبی r تحرک قریش وعزمها بصده من البیت استشار أصحابه ، وکان النبی r کثیراً ما یستشیر أصحابه ، فقال فی هذا الموقف : ( .... أشیروا علًی أیها الناس ، أترون أن أمیل إلى عیالم وذراری هؤلاء الذین یریدون أن یصدونا عن البیت ؟ فإن یأتونا کان الله عز وجل قطع عیناً من المشرکین ، وإلا ترکناهم محروبین ، فقال أبو بکر : یا رسول الله خرجت عامداً لهذا البیت لا ترید قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه . قال : أمضوا على اسم الله ) ([16]). فسلک بهم رسول الله r طریقاً آخر .
 ویظهر من هذا الموقف فوائد عدیدة ، منها أهمیة اتخاذ المسلک المناسب فی الوقت المناسب ، وأن مقاتلة العدو لیست فی کل وقت شجاعة وحنکة ، بل ربما توخیه عین الحکمة والسیاسة افضل .
 ومن الفوائد أن على المسلم أن یتخذ لنفسه ولغیره طریق السلامة ، وإن کانت شاقة ، کما أن مسار الحیاة والدعوة فیه الکثیر من المشقة .
 ومن الفوائد أیضاً أنه عندما برکت راحلته r وحکم الناس علیها بما رأوا فقالوا : حل حل وهی کلمة تقال إذا ترکت الناقة السیر ، فألحت أی تمادت فی عدم القیام ، قال r  منصفاً لأخلاق ناقته القصواء : ( ما خلأت القصواء وما ذاک لها بخُلُق ولکن حبسها حابس الفیل ) ([17]).
 ومن الفوائد فی هذا الموقف أن للإنسان أن یتحدث بما یعرف وبما إعتاده عن الشیء . وإن خالف حقیقة ما یجهله ، وأن على من له معرفة أن ینبه المتحدث إلى حقیقة الأمر لیصحح حکمه وفهمه .
 وبهذا فلا یوصف الإنسان بما یطرأ على تصرفاته من سلوک حمید أو ذمیم  وإنما العمدة على ما أصبح له سجیة وطبعاً وعادة عُرف بها . وإن کان الخطأ ینسب إلیه ، ولا ینسب هو للخطأ ، وبالتالی لا یوصف به على أنه طبیعة له .         وأما ما یتعلق بتطبیق العقوبات الشرعیة والحکم القضائی ، فیأخذ مجراه وفق شریعة الله تعالى([18]).
ومن الفوائد أن النبی r دفع عن عرض هذه الناقة وهی غیر مکلف ، فمن باب أولى الدفع عن عرض المکلف المصون بأن لا نقول غیبة فی أحد أو نسمعها فی أحد ، وندفع الغیبة ونرد على المغتاب([19]).
ومن الفوائد بعد أن استشار النبی r أصحابه رضی الله عنهم أجمعین قال: ( .... والذی نفسی بیده ، لا یسألونی خُطةً یعظمون فیها حرمات الله إلا أعطیتهم إیاها ....) ([20]). وقد بیّن r لأصحابه فی هذا الموقف مبدأ التعامل مع کفار قریش ، بأنهم لن یسألوه خطة أی خصلة یعظمون فیها حرمات الله تعالى ، من ترک للقتال فی الحرم إلا أجابهم إلیها ، وهذا من تعظیمه r للبیت الحرام ولحرمات الله تعالى ، وهذه فائدة فی تقریر المبدأ النبوی فی التعامل .
  فإذا کان هذا التعظیم یتوقع حدوثه من کفار قریش فالفائدة هنا تکمن فی أن المسلم هو أدعى لتعظیم هذا البیت من غیره وفی کل وقت وحین ، خاصة عندما یأمره بذلک القائمون على الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر من المسلمین  وأن لا یتعامل معهم بسوء أدب ، أو جفاء ، فکما عظّم النبی r ما یمکن أن یصدر من کفار قریش حیال تعظیم الحرم ، فإن فی صدور ذلک من المسلم حتماً أولى([21]).
لقد کان من حکمة النبی r أن تحول عن طریق خیالة قریش حتى یتجنب القتال معهم من جهة ، ویرجعوا على مکة من جهة أخرى ، فیؤخر القتال ویترک مجالاً للتفاوض ویؤکد لهم أنه لم یخرج یرید الحرب وإنما خرج محرماً یرید العمرة .
وفائدة هذا تدل على أهمیة دراسة الواقع ووضعه فی مکانه ونصابه ، کما أنه کلما أمکن التفاوض مع الخصم والوصول إلى الهدف بطریق السلم أفضل من التحرک إلى المواجهة العسکریة([22]).
وفائدة أخرى تدل على أن کل من التمس المعاونة على ما یرضی الله تعالى وعلى تعظیم حرماته سبحانه أجیب إلى ذلک کائناً من کان ، ما لم یترتب على ذلک مبغوض لله أعظم منه([23]).
وهذا یرد على من یتهمون الإسلام بأنه دین حرب وسفک دم الأبریاء . إذ هذا رسول الله r یفتح جمیع الأبواب الموصلة إلى صلة الرحم والحفاظ على أرواح الأبریاء والتفاوض مع الخصم للوصول إلى الهدف مع عدم إبداء أی تنازل عن مبدأ الدعوة .
 
 
 
المبحث الرابع
 الفوائد الدعویة المستنبطة من نزول النبی r
بالحدیبیة ومشاورة أصحابه فی ذلک
نزل النبی r بأقصى الحدیبیة على ثمد قلیل الماء یتبرضه الناس تبرضاً ، فلم یُلبثه الناس حتى نزحوه ، وشکى الناس إلى رسول الله r العطش ، فانتزع سهماً من کنانته ثم أمرهم أن یجعلوه فیه ، فوالله مازال یجیش لهم بالری حتى صدروا عنه ....) ([24]).
یوضح هذا المشهد من الحدیث ما کان من نزولهم الحدیبیة ، على ثمد أی حفرة فیها ماء مثمود - أی قلیل – فیأخذ الناس قلیلاً قلیلاً وهو معنى یتبرضه . فلم یترکه الناس إلا وقد انتهى من نزحهم له . 
وهذه مشکلة قد واجهت المسلمین فی هذا الموقع ، مما یدل على أن المؤمن مهما قوی إیمانه ، ومهما کان صلاحه فإنه معرض للابتلاء ، فلیس هناک خیر من رسول الله r یواجه قلة الماء ، بل انتهاء الماء من مصدره ولکن لطف الله وعنایته وولایته تحف عباده المؤمنین([25]).
وبمتابعة أحداث أمر نزول النبی r بالحدیبیة من الحدیث السابق الذکر یأتی موقف التفاوض حیث جاء فی الحدیث .. ( .... فبینما هم کذلک إذ جاء بدیل ابن ورقاء الخزاعی فی نفر من قومه خزاعة ، وکانوا عیبة نصح رسول الله r من أهل تهامة – فقال : إنی ترکت کعب بن لؤی وعامر بن لؤی نزلوا أعداد میاه الحدیبیة ومعهم العوذ والمطافیل وهم مقاتلوک وصادوک عن البیت . فقال النبی r : ( إنا لم نجیء لقتال أحد ، ولکنا جئنا معتمرین ....) ([26]).
ویبین هذا المقطع من الحدیث مکانة قبیلة خزاعة من رسول الله r فهم عیبة رسول الله r - أی أنهم موضع النصح له والأمانة على سره – والعیبة : ما توضع فیه الثیاب لحفظها .
ویستفاد من ذلک جواز استنصاح بعض المعاهدین وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإیثارهم أهل الإسلام على غیرهم ولو کانوا من أهل دینهم .
ومن الفوائد جواز استنصاح بعض ملوک العدو استظهاراً على غیرهم ،             ولا یعد ذلک من موالاة الکفار ولا موالاة أعداء الله ، بل من قبیل استخدامهم وتقلیل شوکة جمعهم ، وإنکاء بعضهم البعض ، ولا یلزم من ذلک جواز الاستعانة بالمشرکین على الإطلاق([27]).
ومن الفوائد أیضاً ما یدل على أن کل ما التمس المعاونة على ما یرضی الله تعالى ورسوله r وتعظیم حرماته سبحانه أجیب إلى ذلک کائناً من کان ما لم یترتب على ذلک مبغوض لله أعظم منه([28]).
وقد نصح بدیل ومن معه لرسول الله r وأخبروه بما کان من أمر قریش بأنهم تجمعوا فی الحدیبیة واستحوذوا على أماکن المیاه ، وقوله نزلوا أعداد میاه الحدیبیة أی الماء الذی لا انقطاع له . وأن معهم ذوات الألبان من الإبل لیتزودوا بألبانها ، ولا یرجعوا حتى یمنعوه r ، وهو ما عبر عنه بقوله : زمعهم العوذ المطافیل . فالعوذ الناقة ذات اللبن ، والمطافیل : الأمهات الاتی معها أطفالها . 
وإزاء هذا التجمهر من کفار قریش یبین r أنه لم یأت لقتال ، وإنما جاء واصحابه لیعتمروا ، ثم یبین علیه أفضل الصلاة والسلام لبدیل بن ورقاء ما لحق بقریش من الحرب إزاء تعنت مشرکیها ، وما یقترحه علیهم من خیر الرأی النبوی الکریم ، فیقول علیه أفضل الصلاة والسلام : (( .... وإن قریشاً قد نهکتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ویخلو بینی وبین الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن یدخلوا فیما دخل فیه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذی نفسی بیده لأقاتلنهم على أمری هذا حتى تنفرد سالفتی ولینفذن الله أمره ....)) ([29]).
لقد بین رسول الله r أثر الحرب على قریش وما صنعت بهم ، بما یستثیر عقولهم من غفلتها ، عن ما لحق بهم من هلاک لرجالهم دون اعتبار ، وفی هذا دلیل حرصه r على حفظ الدماء حتى لأعداء الإسلام ، مالم یدخلوا معه فی حرب ، أو یکیدوا لدین الله تعالى ، وهذا یفید ویوضح ویؤکد أهمیة عنایة الإسلام بالدماء وصیانتها وحفظها ، ما کان لذلک سبیلاً .
ومن هنا یظهر الأسلوب التفاوضی المملوء بالحق وتنبیه الغافل عن سجایا الإسلام وهدیه ، وهذا ما أکده عقلاء کفار قریش عندما سمعوا مقالة رسول الله r هذه .
وقد خیرهم رسول الله r فإن شاءوا ماددهم . أی جعل بینه وبینهم مدة من الزمن تتوقف فیها الحرب . وهنا سیحصل أحد أمرین : إما أن یظهر غیره علیه ، فکفاهم المؤنة وإما أن یظهر النبی r ، فإن شاءوا دخلوا فی دین الله تعالى ، وإلا فلا تنقضی مدة الصلح إلا وقد جموا أی استراحوا وتقووا .
وردد الأمر r مع أنه جازم بأن الله تعالى سینصره ویظهره ، لوعد الله تعالى له بذلک ، على طریق التنزل مع الخصم ، وفرض الأمر على ما زعم الخصم([30]).
والفوائد التی نجنیها من هذا الأسلوب أن یُنزل المتفاوض الاحتمالات المتوقعة للعدو جمیعها ، لیریه الإنصاف ، ولیبین له العدل فی الکلام أولاً . ولیرى الله من نفسه أنه تحت مشیئته سبحانه وتعالى ثانیاً .
ومن الفوائد أیضاً أهمیة التحدث بما یدرکه المقابل ویستوعبه ، ثم یختم عرضه بما یبین عزمه وقوته وشجاعته وثقته فی الله تعالى([31]).
ویتبین من هذا کله أن النبی r لا یرید منهم سوى الإسلام ، وأن مقاتلته ومحاربته لهم لیس على سبیل حب النصر والاستحواذ على الأموال ، أو المکانة ، وإنما لأجل هذا الدین فقط .
والفائدة من ذلک بیان أهمیة الإخلاص لله تعالى فی العمل حتى وإن کانت على أبواب ذلک العمل تحقق خیر الدنیا والآخرة . فلا ینظر إلا ما کان لله تعالى ، ولذلک لم یستکثر r من الأموال وجمعها ، وکذلک من زخرف الدنیا ومتاعها ، وقد جاءه من الخیر ما یجعله کذلک ، ولکنه ما حفظ لنفسه أموالاً ولا ظهر على محیاه حب الوجاهة ، فما أحرى ذوی المناصب الاجتماعیة بهذا المسلک النبوی العظیم([32]).
بعد أن سمع بدیل بن ورقاء المشورة من رسول الله r عزم على أن یذهب بها إلى قریش . فقال بدیل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قریشاً . قال : إنا جئناکم من هذا الرجل ، وسمعناه یقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه علیکم فعلنا . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشیء . وقال ذوو الرأی منهم : هات ما سمعته یقول . فقال : سمعته یقول کذا وکذا ، فحدثهم بما قال النبی r ...) ([33]).
لقد استخدم بدیل أسلوب التشویق فی عرض مقالة رسول الله r فلم یبادرهم بها ، وإنما أفادهم بأنه قدم على رسول الله r وسمع منه عرضاً یعرضه علیهم ، إن  اشتهوا سماعه ومعرفته ، وکذلک فی هذا الأسلوب من بدیل التقدیر لهم ، وهذا أدعى لسماعهم بحکمه . مما یوضح أهمیة تقدیر المخاطب مهما کانت البغضاء له ، حتى یسمع ویستوعب المقال . وهذا من الحنکة السیاسیة التفاوضیة والتی لها أثر بالغ وفاعل فی تحقیق المقصد المراد([34]).
ومن الملاحظ أیضاً فی مثل هذه المواقف أن سفهاء القوم أیاً کانوا یبادرون مجالسهم بالحدیث ، ولکن لا حظ لهم دائماً فی صواب الکلام والرأی . وفیه أیضاً لا یلزم إذا بادر أحد برأی خاطئ أو ضعیف أن یستسلم له العقلاء . وعلى المبلغ أن لا ینزعج إذا رد کلامه ابتداءً ، بل یتأنى حتى یؤدی رسالته([35]).
ثم أتى قریشاً بعد بدیل بن ورقاء الخزاعی ، بشر بن سفیان وقال لهم نحو ما قاله بدیل ، ولکنهم قالوا لهم : إن کان جاء لا یرید قتالاً ، فوالله لا یدخلها علینا عنوةً أبداً . ولا تحدث بذلک عنا العرب([36]).
ثم بعثوا إلیه مکرز بن حفص بن الأخیف ، فلما رآه رسول الله r مقبلاً قال لأصحابه : ( هذا رجل غادر ) .
ثم بعثوا إلیه الحلیس بن علقمة ، فلما رآه رسول الله r قال : ( إن هذا من قوم یتألهون([37])، فابعثوا الهدی فی وجهه حتى یراه ) . فلما رأى الهدی یسیل علیه من عرض الوادی رجع إلى قریش ولم یصل إلى رسول الله r إعظاماً لما رأى([38]).
وهنا تتجلى الفائدة فی حکمة رسول الله r وحنکته کقائد حیث عرف الرسل الذین یأتونه ، وما ینبغی أن یظهره لکل منهم ، حتى ینقلوا الصورة التی یریدها لمن أرسلهم ، فالأول مع غدره والآخر مع تألهه کلهم نقل أن النبی r  لم یأت لقتال وإنما جاء للعمرة .
ومن الفوائد هنا ینبغی للدعاة أن یکون مظهرهم یدل على ما یریدون من دعوة الناس للخیر على اختلاف أصنافهم ، ویظهروا للمدعوین ما یناسب حالهم من محاسن الإسلام لیرغبوا فی الدخول فیه([39]).
بعد أن جاء لهم هؤلاء الرسل بما قاله رسول الله r قام أحد عقلائهم وهو عروة بن مسعود فقال : " أی قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا بلى . قال : أو لست بالولد ؟ قالوا بلى . قال : فهل تستهمونی ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أنی استنفرت أهل عکاظ ، فلما لحقوا علّی جئتکم بأهلی وولدی ومن أطاعنی ؟ قالوا : بلى ....." ([40]).
والفائدة من هذا الحدیث أن الأسلوب الخطابی من عروة بن مسعود الثقفی ، یبین أهمیة تقریر إخلاص الناصح إذا ظن أنه قد یُفهم فهماً خاطئاً ، أو أن لا یدرک مبلغ کلامه ورأیه ، خاصة وأنه قد سبقه من یعارض مبدأ الاستماع ، فضلاً عن قبول محتواه . وهذا یدلل على أن العرب کانت قدیماً تفطن لمنهجیة التعلیم ، والاستثارة البلاغیة والکلامیة ، لیبلغ الکلام مبلغه ، ولا ریب أن ینزل القرآن الکریم بهذه اللغة العظیمة على أناس بلغوا شأواً بعیداً فی مضمار الخطاب اللسانی ، فجاء القرآن الکریم بما هو أعظم وأجمل مما وصلوا إلیه([41]).
وبعد هذا الکلام المثیر من عروة بن مسعود الثقفی ، قال عن عرض رسول الله r لهم " ..... إن هذا قد عرض علیکم خطة رشد أقبلوها ودعونی آتیه ، قالوا إئته فأتاه ....." ([42]).
وهذا الأسلوب اللفظی البارع استطاع أن یجمع رأی قریش على رأی واحد  وهو أن یذهب إلى رسول الله r .
من الفوائد أیضاً والتی تظهر من وصفه لرأی رسول الله r قوة وعدل رسول الله r فی حکمه وتعامله ، حتى أن عدوه وصف رایه r بأنه خطة رشد  وفی هذا أهمیة العدل فی الرأی وما یحتویه من إنصاف حتى یقبله الطرف الآخر  وهو من الحکمة التی لا تتجاهل فهم وإدراک الطرف الآخر ، خاصة وأن رسول الله r یدرک أن الله تعالى ناصره ، عندما قال فی تمام کلامه r لبدیل بن ورقاء : ( لینفذن الله أمره ) . ومع ذلک وضعهم أمام الاحتمالات التی یتوقعونها([43]).
 
 
 
 
 
المبحث الخامس
 الفوائد الدعویة المستنبطة من عقد الصلح مع قریش
جاء سهیل بن عمرو إلى النبی r مرسل من قریش لیفاوضه فی الأمر ویملی علیه شروط قریش ، فلما رآه النبی r قال لأصحابه : ( قد سهل لکم من أمرکم ... ) ([44]).
وتتکرر أهمیة معرفة الخصائص البشریة فی مقدم مکرز حیث بین النبی r ما علیه الرجل أنه غادر . وتتأکد کذلک فی مقدم سهیل بن عمرو ، التفاؤل باسمه لما یتضمنه الاسم من السهولة . وکان کما قال النبی r فکتبت المعاهدة على نحو المجریات التالیة :
(..... قال الزهری فی حدیثه : فجاء سهیل بن عمرو فقال : هات أکتب بیننا وبینکم کتاباً ، فدعا النبی r الکاتب ، وکان علی بن ابی طالب رضی الله عنه . فقال النبی r : ( أکتب بسم الله الرحمن الرحیم ) ، فقال سهیل : أما الرحمن فوالله ما أدری ما هی ، ولکن اکتب بسمک اللهم . کما کنت تکتب ، فقال المسلمون : والله لا نکتبها إلا بسم الله الرحمن الرحیم ، فقال النبی r : ( أکتب بسمک اللهم ) ثم قال : ( هذا ما قاضى علیه محمد رسول الله ) ، فقال سهیل : والله لو کنا نعلم أنک رسول الله ما صددناک عن البیت ولا قاتلناک ، ولکن أکتب محمد بن عبد الله . فقال النبی r : ( والله إنی لرسول الله وإن کذبتمونی ، أکتب محمد بن عبد الله ) . وذلک لقوله r : ( لا یسألوننی خطة یعظمون فیها حرمات الله إلا أعطیتهم إیاها ) . فقال النبی r : ( على أن تخلوا بیننا وبین البیت فنطوف به ) . فقال سهیل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغطة ولکن ذلک من العام المقبل ، فکتب ، فقال سهیل : على أنه لا یأتیک منا رجل – وإن کان على دینک – إلا رددته إلینا . قال المسلمون : سبحان الله کیف یرد إلى المشرکین وقد جاء مسلماً ، فبینما هم کذلک إذ دخل علیهم أبو جندل بن سهیل بن عمرو یرسف فی قیوده ، وقد خرج من أسفل مکة حتى رمى بنفسه بین أظهر المسلمین  فلما رآه سهیل بن عمرو قال : هذا یا محمد أول من أقاضیک علیه ، أن ترده إلّی . فقال النبی r إنا لم نقض الکتاب بعد . قال : فوالله إذاً لم أصالحک على شیء أبداً . قال النبی r : فأجزه لی . قال : ما أنا بمجیزه لک . وقال أبو جندل : یا معشر المسلمین أُرد إلى المشرکین وقد جئت مسلماً ؟ ألا ترون ما قد لقیت – وکان قد عذب عذاباً شدیداً فی الله ....) ([45]).
ویتبین من هذا المقطع التفاوضی مقصد الرسول r السلمی ، وحقنه للدماء ، ریثما تفکر قریش فی أمرها ، فربما یؤوب المشرکون إلى رشدهم .
کما یتبین التزامه r بما تعاهد علیه مع الخصوم([46]). ویستفاد من هذا أهمیة السعی لحفظ الدماء ما کان لذلک سبیلا ، وکذلک حفظ العهود والمواثیق ، وأن الحرب فی الإسلام لیست مطلوبة لذاتها أو لأخذ الناس بالباطل ، أو للاستحواذ على مقدراتهم .
ومما یؤکد عنایة الإسلام بحقن الدماء ما جاء فی الحدیث الذی رواه مسلم رحمة الله تعالى علیه ، عن أنس رضی الله عنه : (( أن ثمانین رجلاً من أهل مکة هبطوا على رسول الله r من جبل التنعیم متسلحین ، یریدون غِرّة النبـی ـ صلى الله علیه وسلم ـ وأصحابه ، فأخذهم سلماً فاستحیاهم . فأنزل الله عز وجل : ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ ([47])ﱠ الفتح:٢٤
وکرر المحاولة ثلاثون شاباً علیهم السلاح أثناء إبرام الصلح فخلى سبیلهم r ([48])
وفی روایة أخرى یظهر موقف أدبی رائع وعظیم من علی بن ابی طالب کرم الله وجهه ورضی عنه ، قد جاء فی صحیح مسلم : ( کتب علی بن أبی طالب الصلح بین النبی r وبین سهیل بن عمرو الذی یمثل المشرکین یوم الحدیبیة ، فکتب : هذا ما کاتب علیه محمد رسول الله . فقال سهیل : لا تکتب رسول الله ، فلو نعلم أنک رسول الله لم نقاتلک . فقال رسول الله لعلی : أمحه . فقال علی : ما أنا بالذی أمحاه . فمحاه النبی r بیده ....) ([49]). وفی روایة أخرى قال النبی r : ( أرنی مکانها ، فأراه مکانها فمحاها ) .
ومن هنا نرى مکانة النبی r فی نفس علی کرم الله وجهه ، إذ لم تجرؤ أن تمتد یده لتمحو لفظ رسول الله r، وهذا دلیل على فطنته وحکمته رضی الله عنه ، وانتباهه وهو فی حالة کاتب بین متفاوضین .
والموقف لیس بالیسیر ، رضی الله عنه لقد علم من بعده درساً فی تعظیم لفظ رسول الله r وهو دلیل على تعظیم صاحبه علیه أفضل الصلاة والسلام ، وتعظیم الله جل جلاله بتعظیم نبیه ورسوله r ، ولیس فی هذا عصیاناً منه رضی الله عنه بل إجلالاً وتکریماً .
ثم إن بنود هذا التفاوض قد أذهلت المسلمین ، ( قال المسلمون : سبحان الله کیف یرد إلى المشرکین من جاء مسلماً ) . قال ابن هشام : دخل على الناس من ذلک أمر عظیم حتى کادوا یهلکون . وقد أذهل ذلک عمر بن الخطاب رضی الله عنه : ( ...... قال : أتیت النبی r فقلت : ألست نبی الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطی الدنیة فی دیننا إذاً ؟ قال : إنی رسول الله ولست أعصیه ، وهو ناصری . قلت : أو لیس کنت تحدثنا أنا سنأتی البیت فنطوف به ؟ قال : بلى . فأخبرتک أنا نأتیه العام؟ قال : قلت : لا . قال : فإنک آتیه ومطوف به . قال : فأتیت أبا بکر فقلت : یا أبا بکر ، ألیس هذا نبی الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطی الدنیة فی دیننا إذاً ؟ قال : أیها الرجل  إنه رسول الله r ولیس یعصی ربه ، وهو ناصره ، فاستمسک بغرزه([50]). فو الله إنه على الحق . قلت : ألیس کان یحدثنا أنا سنأتی البیت ونطوف به ؟ قال : بلى . أفأخبرک أنک تأتیه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنک آتیه ومطوف به . قال عمر : فعملت لذلک أعمالاً .....) ([51]).
ویستفاد من هذا الکلام جواز البحث فی العلم حتى یظهر المعنى . وأن الکلام یُحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصیص والتقیید ، وأن من حلف على فعل شیء ولم یذکر مدة معینة لم یحنث حتى تنقضی أیام حیاته .
وفی عدم مراجعة عمر بن الخطاب رضی الله عنه غیر أبی بکر رضی الله عنه دلیل على جلالة قدره وسعة علمه عنده ، وفی جواب أبی بکر لعمر بنظیر ما جاء به النبی r سواء ، دلالة على أنه کان أکمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله r وأعلمهم بأمور الدین .
  وهذا القول من النبی r یدل على أن شروط الصلح لم تکن الموافقة علیها باجتهاد النبی r ، وإنما بوحی من الله تعالى . ولذلک لم یکن لعمر ولا لغیر عمر أن یناقش فیما قضاه الله ورسوله r ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ  ﱙ ﱚ ﱠ الأحزاب: ٣٦
وبهذا الصلح برز الفرق واضحاً بین وحی النبوة وتدبیر الفکر البشری  بین توفیق النبی المرسل وتصرف العبقری المفکر ، فقد أراد الله أن ینصر رسوله r أمام بصیرة کل متأمل عاقل([52]).
ویستفاد من قصة عمر بن الخطاب رضی الله عنه ، درس لأتباع الدعوة ، وهو أن علیهم أن یستشرفوا دائماً أبعاد معرکتهم مع عدوهم ، وأن یتفهموا الآراء  تعالى بتحمل المسؤولیة ، فکثیراً ما یصدر الأتباع أحکاماً ظاهرها الصواب وباطنها الخطأ([53]).
 
من الحکم التی تضمنتها هذه الهدنة :-
-         أنها کانت مقدمة بین یدی فتح مکة ودخول الناس فی دین الله أفواجاً .
-         أن الهدنة فتحت الباب لاختلاط المسلمین بالکفار ومناظرتهم ودعوتهم حتى أسلم خلق کثیر بعد هذه الهدنة .
-         ما سببه الله تعالى للمؤمنین من زیادة الإیمان والإذعان والانقیاد على ما أحبوا وکرهوا ، وما حصل لهم من الرضا بقضاء الله وتصدیق موعوده وانتظار ما وُعِدوا به ، فأنزل الله علیهم من سکینته ما اطمأنت به قلوبهم وقویت به نفوسهم([54]).
ومن سبر أغوار صلح الحدیبیة وخلفیاته لا یشک أنه فتح عظیم ، فلقد جنى منه المسلمون فوائد عدة منها :-
1-  أن قریش لم تکن تعترف بالمسلمین ، ومجرد جنوحها للصلح یمثل اعترافاً منها بقوة المسلمین وأنها لا تقدر على مقاومتهم .
2-  أن قریشاً بهذا الصلح تنازلت ونسیت صدارتها الدنیویة والدینیة ، فلم یعد یهمها إلا نفسها ، فلو دخلت کل القبائل فی الإسلام فلا یهمها ذلک .
3-  اکتسب المسلمون بصلح الحدیبیة حریة کبیرة فی الدعوة إلى الله تعالى فی جزیرة العرب مما ضاعف أعداد المسلمین .
4- لقد کانت قریش هی التی تبدأ المسلمین بالحرب ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ  ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵﲶ  ﲷﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ  ﱠ التوبة: ١٣
  فوضعت الهدنة حداً لها .
5-اشتراط رد من جاء إلى النبی r مسلماً من قریش یظهر مدى خوف قریش من ازدیاد المسلمین ، ولکن الله جعل لهم فرجاً ومخرجاً . فتراجعت قریش عن هذا الشرط لما رأت ضرره علیها .
6-وضع صلح الحدیبیة حداً لهیمنة قریش على الحرم فلم تعد تقدر على منع المسلمین منه فی غیر هذا العام([55]).
 
 
 
 
 
 
 
 
الخاتمــة
الحمد لله على ما أتم من نعمة بإتمام هذا العمل الصغیر ، فله الحمد على آلائه ، وأسأله تعالى أن لا یحرمنا أجره ، ولا یبعدنا عن نبیه ، ولا عن دفء ظلاله ، وبرد العیش فی رحابه ، فلقد کانت أیاماً طیبة ، ولحظات قیمه مع خاتم الرسل r .
 وکم تمنیت أن یطول بی المقام فی هذه الساحات الزکیة للاغتراف منها ، ونقل ما أغترف من منابع السیرة النبویة وصلح الحدیبیة خاصة إلى قلمی الضعیف لیخرجها من جدید محمله بمشاعر الإکبار والتقدیر ، منغمسة فی بحر الانبهار الکبیر ، لابسة رداء أسلوبی الخاص ، مغموسة فی قاموسی الشخصی ، لکن حجم البحث الذی أردته أن یکون علیه یکتفی بهذا القدر ، فهذا البحث لیس تأریخاً أو تدویناً لأحداث ، بل هو استنباط لفوائد دعویة ، لذلک لا ضیر من الایجاز ، أو التنقل عبر المواقف وانتقاء بعضها دون بعض .
 ومع ذلک تبقى النفس عامرة بالضیاء الذی اقتبست من أنوار السیرة النبویة ولو لم نذکر کل أحداثها هنا ، فما أعظم ما تنعم به النفس من فخر وإیمان فی ظلال صلح الحدیبیة ، لقد اعترض علیه الصحابة لأنهم قدّروا الأمور بظواهرها ، ولم یطلقوا لأنفسهم مجال التفکر فیما وراءها ، ولو فعلوا لعلموا أنهم إنما یمسکون مفتاح الفتح بتوقیعهم العهد ، لقد صار الصلح میداناً کبیراً لانتشار الدعوة ، إذ أصبح خیراً على المستضعفین فی مکة ، فأمن الناس بعضهم بعضاً ، وصاروا یُظهِرون الشعائر ویتحدثون عن الإسلام حتى إنه کما یُروى : ( لم یُکّلم أحد بالإسلام یعقل شیئاً إلا دخل فیه ، ولقد دخل فی تینک السنتین مثل من کان فی الإسلام قبل ذلک أو أکثر ) . وکان ذلک سبباً فی فتح مکة بعد صلحاً لا قتالاً ، بعد أن سارع کثیر من أهلها إلى الإسلام ، فلم یقاوموه عند الدخول لفتحها .
النتائج : 
1-  استنباط الحِکم والفوائد والأحکام من أحداث السیرة وصلح الحدیبیة .
2-  جمع ما تفرق من استنباطات فی کتب السیرة المشهورة الخاصة بصلح الحدیبیة .
3-  ذکر ما جاء من فوائد دعویة فی بعض کتب شروح الحدیث حول أحداث صلح الحدیبیة .
4-  صلح الحدیبیة کان مقدمة لفتح مکة ودخول الناس فی دین الله أفواجاً .
5-  الصلح فتح الباب أمام المسلمین للاختلاط بالکفار ومناظرتهم ودعوتهم حتى أسلم خلق کثیر .
6-  هذا الصلح وتحمل المسلمین بما فیه من صعوبات یدل صراحة على أن الهدف من الجهاد لیس تقتیل الناس وسفک الدماء ، بل دعوة الناس إلى هذا الدین وتبلیغه إیاهم .
7-  إن هذا الصلح وما جاء فیه یفند دعاء البعض إرهابیة الإسلام ، ویرد علیهم الواقع والمنطق ببطلان ذلک .
التوصیات :
1-  الاتباع الأمثل لمنهج النبی r دون الابتداع ، لأن ما جاء به r من ذاک الزمان وإلى الوقت الحاضر کله حق .
2-  على المسلم التروی وعدم التسرع فی الحکم على الغیر حتى یتبین .
3-  احتمال قلة أدب غیر المسلمین فی التطاول على الإسلام وردهم رداً جمیلاً للمصلحة العامة .
4-  على المسلم استحباب التفاؤل دائماً .
5-  على الإمام أو الأمیر إذا ما اُبتدء بطلب الصلح مع العدو لا یرفض مادام فیه مصلحة المسلمین .
اللهم تقبل منا ، وعلمنا ما جهلنا ، وانفعنا بما علمتنا ، واعف یا رب عن کل تجاوز أو زلل ، فإنما التوفیق منک وبک .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین ... وصلی اللهم على خاتم الأنبیاء والمرسلین وعلى آله وصحبه أجمعین .
(1) لسان العرب / ابن منظور ، (6/3498) .
(2) المعجم الوسیط / مجمع اللغة العربیة ، (2/714) .
([1]) المنجد / معلوف ، ص427.
([2]) المنجد / معلوف ، مرجع سابق ، ص428 .
([3]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، ج3 ، ط3 ، العبیکان  الریاض ، 2009م ، ص120 .
([4])  صحیح البخاری ، البخاری ، حدیث رقم (2731-2732) ، وهو حدیث طویل.
([5])  السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص121.
([6]) الطبقات الکبرى / ابن سعد ، (2/95).
([7]) صحیح البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) ، حدیث رقم 2732.
([8]) السیرة النبویة الصحیحة / أکرم ضیاء العمری ، (2/424)  .
([9]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، ط1 ، دار الزمان  ، المدینة المنورة ، 2006م ، ص375.
([10]) أخلاق الحرب فی السیرة النبویة / مروان شیخ الأرض ، ط1 ، دار غار حراء ، دمشق ، 2008م ، ص225 .
([11])  السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص122.
([12]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص122.
([13]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص376.
([14]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (3/131) ، حدیث رقم 4178 .
([15]) فتح الباری من صحیح البخاری / ابن حجر العسقلانی ، (7/454).
([16]) صحیح البخاری ، مرجع سابق ، (3/131) حدیث رقم 4179.
([17]) المرجع نفسه ،  (2/279) حدیث رقم 2731.
([18]) أصول التربیة الإسلامیة / خالد بن حامد الحازمی ، ص167.
([19]) فقه السیرة / زید بن عند الکریم لزید ، ط8 ، دار التدمریة ، الریاض ، 1432هـ ، ص534.
([20]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2732 .
([21]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص380 .
([22]) بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر ، ط1 ، دار ابن حزم ، بیروت ، 2015م ، ص348 .
([23]) زاد المیعاد فی هدی خیر العباد / ابن القیم ، (3/303)  .
([24]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2731.
([25]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد مبارک ، مرجع سابق ، ص381.
([26]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2732.
([27]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص382.
([28]) بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر وآخر ، مرجع سابق ، ص349.
([29]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2732.
([30]) فتح الباری من صحیح البخاری / ابن حجر العسقلانی ، مرجع سابق ، (5/338).
([31]) السیرة النبویة کما جاءت فی الأحادیث الصحیحة / محمد الصویانی ، مرجع سابق ، ص133.
([32]) فی ظلال السیرة النبویة / مشعل عبد العزیز ، دار القلم ، دمشق ، ط1 ، 2010م ، ص193 .
([33])  صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2731.
([34]) الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص385 .
([35])  بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر وآخر ، مرجع سابق ، ص351.
([36])  زاد المعاد فی هدی خیر العباد ، ابن القیم ، (3/303).
([37])  یتألهون : أی یتعبدون ویعظمون الله.
([38])  بدر التمام فی سیرة خیر الأنام / علی بن عمر ، مرجع سابق ، ص350.
([39]) السیرة الحلبیة / برهان الدین الحلبی (2/705).
([40]) صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/279) حدیث رقم 2732.
([41]) المعین الرائق من سیرة خیر الخلائق / سعید محمد صالح ، ط5 ، 2015م ، دار الفکر ، القاهرة ، ص265.
([42])  صحیح البخاری ، البخاری ، مرجع سابق ، (2/284) حدیث رقم 2731.
([43])  المعین الرائق من سیرة خیر الخلائق / سعید محمد صالح ، مرجع سابق ، ص266.
([44])  السیرة النبویة / ابن هشام ، (3/326).
([45])  صحیح مسلم ، مسلم ، (3 /1442) حدیث رقم 1808.
([46])  الفوائد السنیة من السیرة النبویة / خالد بن حامد الحازمی ، مرجع سابق ، ص395.
([47])  صحیح مسلم ، مسلم ، مرجع سابق ، (4/1442) حدیث رقم 1808.
([48])  مسند الإمام أحمد ، أحمد بن حنبل ، (4/86).
([49])  صحیح مسلم ، مسلم ، مرجع سابق ، (3/1409) حدیث رقم 1783.
([50])  الغرز : بمثابة ومنزلة الرکب للفرس ، وهو کالذی یمسک برکب الفارس فلا یفارقه . الفتح (5/346).
([51])  السیرة النبویة / ابن هشام ، مرجع سابق ، (3/332).
([52])  السیرة النبویة فی ضوء المصادر الأصلیة / محمد سعید رمضان البوطی ، ط6 ، 2012م ، دار السلام ، القاهرة ، ص347.
([53])  الأساس فی السنة / سعید حوی ، ط5 ، 2009م ، دار السلام ، القاهرة ، ج2 ، ص788.
([54])  السیرة النبویة فی ضوء المصادر الأصلیة / البوطی ، مرجع سابق ، ص356.
([55])  الرحیق المختوم / صفی الرحمن المبارکفوری ، ط1 ، 2013م ، دار السلام ، القاهرة ، ص352-354.